سليمة عبد الجليل بنجلون
مقدمة
يُعتبر الوسط الأكاديمي، بمختلف تخصصاته، ساحة يفترض أن تحكمها مبادئ البحث العلمي، النزاهة الفكرية، والجدل الحر المبني على الحجة والدليل. غير أن الواقع يُظهر أن الحسد والكراهية كثيرًا ما يتغلغلان في العلاقات بين الباحثين، سواء في علم الاجتماع، علم النفس، الدراسات الإسلامية، الفلسفة، التاريخ، أو دراسات اللغات العربية والفرنسية. هذه المشاعر السلبية لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تتحول أحياناً إلى ظواهر بنيوية تؤثر على جودة البحث العلمي، وعلى المناخ الأكاديمي نفسه. يهدف هذا المقال إلى تحليل أبعاد هذه الظاهرة عبر مداخل متعددة: علم الاجتماع، علم النفس، الدراسات الإسلامية، الفلسفة، التاريخ، ودراسات اللغات، مبينًا أسبابها وتجلياتها ومآلاتها.
أولاً: الحسد والكراهية من منظور علم الاجتماع
1.1. سوسيولوجيا الحسد في الوسط الأكاديمي
يرى بيار بورديو (Pierre Bourdieu) أن الحقل الأكاديمي ليس مجرد فضاء للعلم، بل هو أيضاً ساحة صراع على رأس المال الرمزي (الشهادات، الاعتراف، الشهرة). هذا الصراع يولّد مشاعر الحسد تجاه من يحققون صعوداً أسرع أو اعترافاً أوسع. الحسد هنا ليس مجرد انفعال شخصي بل هو نتيجة منطق الحقل نفسه الذي يُؤطر علاقات القوة داخله.
المرجع: Pierre Bourdieu, Homo Academicus, Éditions de Minuit, 1984.
1.2. آليات التمييز وإعادة إنتاج الكراهية
بناءً على الطروحات السوسيولوجية الحديثة، يتمثل الحسد الأكاديمي أيضاً في محاولات تهميش الباحثين الجدد أو المختلفين، عبر تحالفات ضمنية، وشبكات تكرس التراتبية. يتحول الحسد إلى كراهية حين يُستخدم كسلاح اجتماعي لإقصاء المنافسين، سواء عبر لجان التحكيم، الترقيات، أو التعيينات الأكاديمية.
ثانياً: الحسد والكراهية من منظور علم النفس
2.1. النرجسية الأكاديمية وأثرها
علم النفس يحلل الحسد الأكاديمي بوصفه نابعًا من نرجسية الفرد الأكاديمي. الباحثون الذين يُعرّفون أنفسهم من خلال منجزاتهم الفكرية قد يشعرون بتهديد شديد أمام نجاحات الآخرين. وفق نظرية “تهديد الأنا” (ego threat)، فإن تقدير الذات الأكاديمية المتضخم يجعل أي تفوق للآخر يُستقبل بكراهية دفاعية.
المرجع: Paul Wachtel, The Poverty of Affluence, Free Press, 1983.
2.2. ميكانيزمات الإسقاط والتحقير
في السياق الأكاديمي، قد يلجأ بعض الباحثين إلى الإسقاط (projection)؛ أي نسب مشاعرهم السلبية إلى الآخرين (“هو مغرور” بدلاً من الاعتراف بـ”أنا أحسده”). الكراهية الناتجة تُشرعن عبر تحقير الآخر، وإظهار تفوق أخلاقي أو معرفي مزعوم.
ثالثاً: الحسد والكراهية في الدراسات الإسلامية
3.1. النصوص الدينية وتفسير الحسد الأكاديمي
ترى بعض الدراسات الإسلامية أن الحسد ظاهرة قديمة، وحذرت منه النصوص القرآنية والحديثية بشدة: “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب” (رواه أبو داود). الحسد في السياق الإسلامي الأكاديمي يُفسَّر بأنه تجاوز للحدود الأخلاقية التي ينبغي أن تضبط العلاقة بين الباحثين.
3.2. جدل الرياء والنية في الحقل العلمي
تؤكد الدراسات الإسلامية أن النية في العمل العلمي لها دور جوهري؛ فإذا اختلط العمل بطلب الشهرة، كان عرضة للحسد. في بعض المؤسسات الإسلامية، تكون المنافسة بين الباحثين مغطاة بشعارات التقوى، بينما تضمر حروبًا خفية تقوم على الكراهية والحسد.
المرجع: الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
رابعاً: الفلسفة والحسد الأكاديمي: معركة العقول
4.1. الفلسفة: الحسد كصراع أنوية
في الفلسفة، حيث يُقدَّر الإبداع النظري و”التفكير الحر”، يصبح الحسد أشدّ لأنه يتعلق بمكانة “العقل المفكر” ذاتها. الفلاسفة الكبار مثل هيغل ونيتشه خاضوا معارك فكرية عنيفة مع معاصريهم، حيث كان التنافس على “امتلاك الحقيقة” يغذي نزاعات قاسية.
المرجع: Friedrich Nietzsche, Ecce Homo, 1888.
4.2. الكراهية الفلسفية وأسطورة التفوق المعرفي
الكراهية الفلسفية غالبًا ما تتجلى في محاولة الحطّ من قيمة الخصم معرفيًا. يتحول الجدل الفلسفي أحيانًا من حوار نقدي إلى صراع من أجل تحطيم الخصم، لا من أجل إثبات الحقيقة.
خامساً: التاريخ: الحسد على مجد إعادة بناء الماضي
5.1. التاريخ كحقل للصراعات الرمزية
الحسد في الوسط التاريخي متجذر في طبيعة المهنة: من يعيد كتابة الماضي يملك قوة رمزية كبيرة في الحاضر. لذلك، فكل عمل تأريخي جديد يهدد مكانة مؤرخين سابقين، مما يولد مشاعر الكراهية والرفض، أحياناً باسم الدفاع عن “الأمانة العلمية”.
المرجع: Michel de Certeau, L’Écriture de l’Histoire, Gallimard, 1975.
5.2. صراع الأجيال الأكاديمية
في التاريخ كما في الفلسفة، هناك صراع بين “الحرس القديم” والباحثين الجدد. الحسد هنا لا يتعلق فقط بالمكانة، بل أيضاً بالخوف من خسارة السلطة على السرديات التاريخية.
سادساً: الحسد والكراهية في دراسات اللغات: العربية والفرنسية نموذجاً
6.1. اللغات: الحقول الرمزية الدقيقة
في دراسات اللغة العربية أو الفرنسية، تظهر الكراهية عبر التنافس على الأصالة والابتكار في قراءة النصوص. الباحثون الذين يقتحمون مجالات جديدة يُستقبلون أحيانًا بحذر وعداء، خاصة إن قدموا مقاربات تخالف “التقليد الأكاديمي” السائد.
6.2. التسلط الرمزي عبر اللغة
بورديو تحدث عن السلطة الرمزية للغة؛ في الحقول الأكاديمية الخاصة باللغات، يستخدم البعض معرفتهم العميقة للغة كسلاح لتهميش الآخرين، مما يولّد كراهية صامتة وشعوراً بالدونية لدى الباحثين الجدد.
المرجع: Pierre Bourdieu, Ce que parler veut dire, Fayard, 1982.
خاتمة
الحسد والكراهية في الأوساط الأكاديمية، مهما حاول الباحثون إخفاءهما خلف جدران المناهج العلمية والحياد الظاهري، يظلان ظاهرتين متغلغلتين بعمق في البنى النفسية والاجتماعية والثقافية للحقول المعرفية. تتفاوت شدتهما بحسب الحقول؛ من دراسات اللغات التي يشوبها الحذر الصامت، إلى الفلسفة والتاريخ حيث يأخذان طابع المعركة المكشوفة. إن فهم هذه الظواهر لا يهدف إلى تبريرها، بل إلى إدراك آليات اشتغالها من أجل بناء وسط أكاديمي أكثر نزاهة وتحررًا. فكما قال الفيلسوف سبينوزا: “لا نضحك، لا نبكي، لا نحتقر، بل نفهم”.
رابط صفحة الكاتبة على فيسبوك: https://www.facebook.com/share/1ACSKafvw9/