من إعداد: محمد جناي ـ خريج القرويين، كلية أصول الدين بتطوان
شغل موضوع (الحرية في الإسلام) المفكرين المسلمين والغربيين لأكثر من قرن، ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر ،ومع اشتعال الحروب الاستعمارية في العالم الإسلامي وعليه بدأ المفكرون الاستعماريون يحملون على الإسلام في قضيتين: قضية الجهاد ، وقضية الحرية؛ فالجهاد -الذي كان المسلمون يرفعونه شعارا في دفاعهم عن ديارهم أمام الغزو الاستعماري- عده المستعمرون “حربا دينية”، واستعادوا المقولة القديمة لدى اللاهوتيين البيزنطيين في القرنين التاسع والعاشر للميلاد ، والتي تذهب إلى أن الإسلام اعتمد في انتشاره على السيف. أما أوضاع المرأة في العالم الإسلامي فرآها هؤلاء دليلا على أن الإسلام لا يقول بالحرية في الاعتقاد والسلوك، ويميز بين الرجل والمرأة في هذه المسألة، وفي مسائل أخرى. ووقتها رد المفكرون المسلمون -من مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين -على هاتين الدعويين : دعوى الحرب الدينية ، ودعوى افتقاد الحرية . وقد أعاد المفكرون المسلمون ذلك إلى التخلف الذي يعاني منه المسلمون ، وليس إلى أصول الإسلام(1).
وللنظرة الأولى يبدو الجمع بين الحرية والإسلام تناقضا بينا: فالدين قائم على العبودية لله ولقوله تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” ، أما الحرية فتبدو الحرية على الضد من ذلك تماما، متحررة من كل قيد، كما ردد بعضهم أن مبحث الحرية غريب عن تراث الإسلام إذ لم يطرح إلا في سياقين: اجتماعي طرحت فيه الحرية مقابل الرق، وميتافيزيقي في سياق علاقة الإنسان بربه ومدى حريته في الفعل، غير أننا إذا صرفنا النظر عن المماحكات الكلامية بين الفرق الإسلامية المتكلمين ودققنا النظر في طبيعة رسالة الإسلام ومقاصدها العليا سيرتفع هذا التناقض المصطنع(2).
ولايذكر القرآن مفرد الحرية في معرض الحديث عن الإيمان؛ لكنه يذكر في عشرات المواطن مايدل على ذلك دلالة قاطعة ؛ وذلك من مثل :(لا إكراه في الدين )الآية، و(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )الآية، (وهديناه النجدين فلا ٱقتحم العقبة )الآية . كل هذه الآيات وغيرها -إضافة للأحاديث الصحيحة -مشعرة بأن الإيمان قائم على الحرية (3).
لكن تبقى هنا مسألتان مهمتان ، لا تزالان شديدتي التأثير على النظرة إلى الإسلام ، أولاهما فقهية وهي المعنية في هذا المقال البحثي، والأخرى سياسية واستراتيجية ، وتتعلق بأنظمة الدول والإمبراطوريات وتصرفاتها عبر العصور القديمة والوسيطة والمعاصرة(4).
أما المسألة الفقهية فهي اشتراع الفقهاء لحد الردة؛ أي معاقبة الذي يترك الإسلام علنا أو يعلن ارتداده عنه سواء اعتنق دينا آخر أم لا ، معاقبته بالقتل بعد الاستتابة والإصرار . إن الملاحظ أن القرآن يذكر للذين يغادرون الإسلام عقوبات أخروية ؛ بيد أن المحدثين والفقهاء يذكرون حديثا صحيحا من حيث الإسناد يقول بقتل “التارك لدينه المفارق للجماعة”. هناك شرطان إذا لإقامة الحد أو العقوبة : أن يعلن المسلم الخروج من الإسلام، وأن يصارح جماعة المسلمين بالمعاداة . وهذه المسألة وردت عليها اجتهادات حديثة ، لا ترى أن الردة تستوجب حدا، ولا ترتب عليها عقوبات من أي نوع، بيد أن البعض من الفقهاء المعاصرين لايزالون يقولون بحد الردة(5).
لقد بحث محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق هذه القضية ضمن كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) وننقل هنا ماقاله في هذا الصدد : “الاعتداء على الدين بالردة يكون بإنكار ماعلم من الدين بالضرورة أو ارتكاب مايدل على الاستخفاف والتكذيب ، والذي جاء في القرآن عن هذه الجريمة هو قوله تعالى :”ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون “الآية. والآية كما ترى لا تتضمن أكثر من حكم بحبوط العمل والجزاء الآخروي بالخلود في النار(6).
أما العقاب الدنيوي لهذه الجناية وهو القتل فيثبته الفقهاء بحديث :”من بدل دينه فاقتلوه”.ويضيف الشيخ شلتوت قائلا: “وقد يتغير وجه النظر في هذه المسألة إذا لوحظ أن كثيرا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد وأن الكفر بنفسه ليس مبيحا للدم ، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم ، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه على الدين . وعلى الرغم من أن الشيخ شلتوت قد اكتفى بالإشارة إلى الآراء المختلفة في هذه القضية دون أن يذكر رأيه صراحة؛ فإن من الواضح أنه يميل إلى القول بالعقوبة الآخروية فقط للمرتد بالخلود في النار كما جاء في الآية المشار إليها في هذا الصدد(7).
وفي ضوء ذلك نجد أننا نتجاهل أمرا بالغ الأهمية فيما يتعلق بقضية الردة ، وهو ضرورة البحث عن أحوال المرتد والتحري عن الأسباب الكامنة وراء ارتداده، والظروف النفسية والفكرية والدينية التي تحيط به ، والأحوال المادية التي يعيش في ظلها وما إلى ذلك من أحوال أخرى قد تكون مؤثرة عليه بشكل من الأشكال .
إن ما سبق تقريره لا يعني تجاهل الواقع والنظر إلى الوراء في التاريخ، حيث لقيت مسألة الحرية صعوبات كبرى وتحديات. ثم إن الفكرة ذاتها عانت وتعاني من مخاضات كبرى وعائلة بين التجربة غير الناجحة للدولة الوطنية في بلدان عربية وإسلامية رئيسة من جهة، والثوران الأصولي العدو للحرية والتقدم وسماحة الإسلام من جهة ثانية. وهكذا فالتحديات تحتاج إلى نضال كبير وتدبر أكبر.
إن مسألة الحرية مسألة في منتهى الأهمية؛لأنها متعلقة بسبب وثيق بإنسانية الإنسان ،وبإمكانياته في التفتح والازدهار؛بيد أن خطرها وتكاليفها وأعباءها لا تقل درجة عن أهميتها.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1):الحرية في الإسلام ومقاصد الشريعة مجلة تفاهم السنة الرابعة عشرة خريف 2016م./1438ه. عبد الرحمان السالمي.
(2): مدونات الجزيرة من مقال الحرية في الإسلام ويتصرف يسير .
(3):الحرية في الإسلام ومقاصد الشريعة مجلة تفاهم .
(4):نفس المصدر
(5):مجلة الأزهر افتتاحية العدد شتنبر 2018/الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية لمحمود حمدي زقزوق رحمه الله.
(6) و(7) :نفس المصدر السابق.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=8093
ياسمين بيدقانمنذ 5 سنوات
بالتوفيق