الحركة التداولية لثنائية الخير والشر.. دراسة تحليلية لأنموذج السوري والقيم المستقبلية

دينبريس
2024-12-29T10:32:19+01:00
آراء ومواقف
دينبريس29 ديسمبر 2024آخر تحديث : الأحد 29 ديسمبر 2024 - 10:32 صباحًا
الحركة التداولية لثنائية الخير والشر.. دراسة تحليلية لأنموذج السوري والقيم المستقبلية

حسن حلحول ـ محامي بهيئة الرباط.
إن الملاحظة الأساسية التي يمكن أن نسجلها حول الأحداث السريعة والمفاجئة هي أن حادث سقوط نظام الأسد في سوريا، ومغادرة الرئيس لها بتلك الطريقة تاركا الدولة على حالة من الفراغ التام، يطرح أكثر من سؤال: هل هو صراع بين الخير والشر؟ وهل تعتبر اليوم هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني هي الخير للشعب السوري؟ وهل نظام بشار الأسد في نظر كل السوريين شر تم الانتصار عليه؟ ما هي ماهية الخير والشر في تدمير مؤسسات الدولة؟ وهل انتصار الإسلاميين الذين اعتبروا في الأمس من الإرهابيين (الشر) واليوم من الإصلاحيين (الخير) هو الخير المطلق؟

أم أن الأمر يتعلق بتداولية الخير والشر في المجتمع، أي أن ما كان يعتبر ويسمى بالأمس القريب خيرا تحت أيديولوجية الاشتراكية العلمية والقومية العربية ومركز جبهة الصمود والتصدي، وكان الشعب يمجده ويناصره في كل القرارات، انقلب فجأة على عقبه وأصبح شراً؟ وهل الشر انبثق وانفلق من خير الأمس؟ وهل العلاقة بين الخير والشر هي علاقة جدلية ومحايثة لا الخير ينتصر عليه ولا الشر ينهزم أمامه؟

إذا كان الفلاسفة منذ البداية بحثوا بعمق في ماهية الوجود لمعرفة كينونته، ثم انتقلوا للبحث في ماهية الطبيعة وانشغل فكرهم بها، ثم بعد ذلك بحثوا في ماهية الإنسان وأسسوا نظرية المعرفة عليه، الذي وجدوه جديراً بالبحث عن سعادة الإنسان وأخلاقه لمعرفة سلوك الخير والشر فيه.

لقد تناول هذا الموضوع المتعلق بالخير والشر فلاسفة كبار، نذكر على سبيل المثال من الفلاسفة المسلمين ابن سينا، وكان لديه اعتقاد راسخ ويقيني أن الخير غالب على الشر. إذن كان يرى أن العلاقة الموجودة بين الخير والشر هي صراع، وهذا ما يعتقده كثير من المتكلمين والفلاسفة.

إن شيخ فلاسفة المسلمين كان يعتبر أن الخير من طبيعة الوجود والشر من طبيعة العدم. يرى أن الخير المحض أو المطلق لا وجود له في هذا العالم، ولو كان هذا المطلق هو السائد في الحياة لما وجد العالم ولا وجود للشر بداخله لأن الجميع حظي بكمال الوجود، في حين أن عالمنا عالم الفساد. و

لو كان الشر مطلقا لما وجد كذلك العالم؛ لا يمكن أن تستمر الحياة بوجوده بالمفرد، وهو عالم الموجودات الممكنة أي أنه ليس واجب الوجود لذاته لكي يكون كاملا، بل هو عالم الإمكان بمعنى من الممكن أن يوجد ومن الممكن أن لا يوجد. وكل الإمكان يحتمل العدم والنقص، والنقص شر. إن ما ذكره شيخ الفلاسفة المسلمين عن الكون، حيث لا وجود للخير المطلق الذي لا يحمل بداخله الشر، هو استنتاج فلسفي مبدع.

هذا الاستنتاج الذي توصل إليه ابن سينا لم يسعفه الاستدلال على مبدأ التناقض الديالكتيكي الذي هو جوهر جميع الظواهر والأشياء كما قام بالاستدلال عليه هيجل وماركس. يمكن القول إن ابن سينا سبق وتفطن إلى مبدأ الديالكتيك بين المتناقضات قبل هؤلاء الفلاسفة، عندما اعتبر أن الخير يحمل في ذاته الشر.

يرى أن ترابط الأشياء يجعلها لا يمكن قبول أي حدث بمعزل عن الأحداث الأخرى، وأن هذه الظواهر تسير في حركة تداولية بدل التجادلية. وهذا فيه رفض للمنهج الميتافيزيقي بشكل غير مباشر، الذي ينظر إلى الأشياء بمعزل عن بعضها البعض. ليس هناك من شيء دائم، فكل الأشياء في مرحلة انتقال وفي تطور دائم وفي حركة تداولية.

من يعتقد أن انتصار جبهة تحرير الشام هو انتصار للخير مخطئ، ما هو إلا انتصار في أذهانهم فحسب. أحسب أن ذلك مجرد دعاية إعلامية يسوق لها من خطط وساهم في القضاء على مقومات الدولة السورية، ولا أقول النظام السوري حتى لا يعتقد البعض أنني أدافع عن نظام الأسد.

لأن هذا الأخير يحمل الخير والشر، كما تحمل النار النفع في طهي الطعام والإضاءة والتدفئة وتحمل الضر في إحراق الإنسان والأشياء النافعة، وفقا لما قاله ابن سينا. وكان في الإمكان تجديد النظام وإيجاد بديل من الداخل يهدف إلى تحقيق المصلحة الداخلية وليس تحقيق مصالح أجنبية لها أطماع في سوريا.

إذن، يستفاد من ذلك أن المصلحة هي التي تحدد مفهومي الخير والشر وليس الأخلاق العامة الممثلة في الدين. لأن مبدأ الحركة التداولية بين الخير والشر أو بصفة عامة بين ثنائية الموجودات التي فسرها بعض الفلاسفة على أنها صراع، ليست الحقيقة في شيء، وإنما هي حركة تداولية في كل شيء، يولد الجديد من خلال وصول التراكمات الكمية التداولية.

وهذا يعني أن لا شيء ثابت أبدا في الطبيعة أو المجتمع. وإن وعينا لاستمرار حركة تداولية جوهرية تحرك القضية إلى نقيضها ينشأ عنها مركب هو السيرورة، لأن الخير ليس تاما والشر الذي يتخلله ليس تاما، بل هي لحظة من تطور النظام والانتقال من حال إلى حال، يعزز تفاؤلاً بالمستقبل، فعوامل اليأس تداولية مؤقتة.

كثيرون ينتمون إلى مدرسة تفسير الظواهر الاجتماعية تفسيرا سطحيا بعيدا كل البعد عن التفسير العلمي للأحداث. إن تهاوي النظام وسقوطه ليس لأنه شر مطلق، وأن جبهة تحرير الشام خير مطلق، وإنما تداخلت المصالح وتدخلت قوى أجنبية عملت على تحقيق مصالحها مستعملة جبهة الشام كأداة للوصول إلى مصالحها.

إن الحركة التداولية لثنائية الخير والشر هي السيرورة التاريخية لتطور المجتمعات المبنية على حب الخير، الذي هو جوهر الحياة الإنسانية وهدفها، وهي القوة المحركة للتقدم الاجتماعي والأخلاقي خاصة. تقتضي أن يتم بهدوء تام تجديد النخبة الحاكمة التي كانت بالأمس القريب تمثل الخير. وأن الاختلاف مع عقيدتها وأيديولوجيتها لا يكون مبررا للجوء إلى أعداء الأمة لتنتصر بهم، لأن هذا الانتصار الملطخ بالخيانة شر ورذيلة، وليس خيراً، وأن ما بني على الشر لن ينتج إلا الشر.

إن كل من يطلب الانفصال عن الوطن ويستعين بالغير ضد بلده، خيانة عظمى وشر مطلق. فلا يمكن لشرذمة ليس لها مشروع مجتمعي أن تنهض بمؤسسات الدولة وهي تفتقد إلى الشرعية. إن الحركة التداولية أساسها الحوار المبني على التنازلات، لا مجال فيه لحمل السلاح وقتل الأبرياء بتحريض من جهات أجنبية.

إن الجبروت والتسلط لا يمكن له أن يستمر في سوريا، طالما استمر الصراع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاستبداد والتسلط. إن استمرار وجودها مرهون بضعف العوامل الذاتية ومشاركتها في عملية الحركة والصراع.

أستنادا إلى جدلية حول استمرار الحركة التداولية والصراع والتناقض ونفي النفي، فإن في هذه العملية التداولية تكمن الآمال العظيمة وهو التداول على السلطة بشكل ديمقراطي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.