الحركات الإسلامية بين ثنائية التقية والثقة

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس9 يناير 2025آخر تحديث : الأربعاء 8 يناير 2025 - 9:49 مساءً
الحركات الإسلامية بين ثنائية التقية والثقة

منتصر حمادة
هذه وقفة مكاشفة مع أحد القلاقل السلوكية التي يتربّى عليها العقل الإسلامي الحركي، ونخص بالذكر العقل الإخواني، بخلاف السائد مع باقي أنماط التدين الإسلامي الحركي، من قبيل العقل السلفي، في شقيه التقليدي و”الجهادي”، والحديث عن معضلة عنوانها “معضلة التقية”.

يقتضي الخوض في الموضوع الإحالة إلى ما قد نصطلح عليه “مؤشر التقية”، الذي يقتضي بدوره أن ننطلق من أرضية نقيس عليها مستوى هذه الممارسة، ولو افترضنا أنه لدينا “سُلّم التقية”، قياساً على “سُلّم ريختر” مثلاً، وهو مقياس مستويات الزلازل، والذي بمقتضاه، نقيس مستويات هذه الممارسة عند الفاعل الديني بشكل عام، سواء كان حركة إسلامية، أو طريقة صوفية، أو جماعة سلفية، …إلخ، لوجدنا أن مؤشّر ممارسة التقية عند الفاعل الإخواني مرتفع، مقارنة بمؤشر ممارسة التقية عند المتديّن “السلفي الجهادي”، الذي لا ننتظر منه ممارسة التقية، على الأقل في مرحلة “التمكين”، بحسب الاصطلاح الإخواني، أي مرحلة الإمساك بزمام السلطة الحاكمة، كما عاينا، على سبيل المثال، في المناطق التي تحكّم فيها المشروع “الجهادي”.

واضح أن المتديّن الداعشي لا يمارس التقية إجمالاً، بينما الأمر مختلف، بشكل عام، عند المتديّن الإخواني، بل إن المأزق يطال حتى المتديّن الذي أخذ مسافة من الإسلاموية الإخوانية؛ بسبب ضريبة الانتماء، وبالتالي يعاني الشيء الكثير حتى يتحرر بشكل نهائي من التأثير المفاهيمي لأدبيات التربية الإخوانية، ومنها أدبيات التقية، فكيف يكون الأمر مع الذي ما يزال إخوانياً؟

لا يتعلق الأمر بالمتديّن الإسلامي الحركي، الذي ما يزال يتبنى هذا الخيار، أي ممارسة التقية، لأنه تربّى عليها، فهؤلاء خارج دائرة الحوار وتأسيس أجواء الثقة، تفعيلاً لقاعدة “لا ثقة في كلّ مَن يُمارس التقية”، وإنما نتحدث عن الآثار السلبية للتربية على التقية، تلك الذي تعرّض لها متديّن إسلامي حركي، لأنه لا يُعدّ كذلك.

بمعنى آخر؛ حتى مع أخذ المتديّن الإخواني مسافة نظرية وتنظيمية من الخطاب والمشروع، فإنه لن يتحرر من الآثار النفسية لمرحلة الانضمام بين ليلة وضحاها، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً في معرض الحديث عن المضاعفات السلبية للمرور على التجربة الإسلامية الحركية، ونقصد بها ضرائب المرور على تجربة إسلامية حركية، فموازاة مع النتائج الإيجابية للتجربة، من قبيل: تزكية الذات، والنهل من علوم دينية، والتفرغ لبعض الالتزام الديني، كما يُصطلح عليه، وجوانب أخرى، هناك الوجه السلبي للتجربة؛ وهو وجه متوقَّع، ضمن أيّة ضريبة تهمّ الانتماء إلى مشروع أيديولوجي ما، بصرف النظر عن طبيعية هذه الأيديولوجيا، كأن تكون دينية أو مادية، فهذا معطى ثانوي، أما المعطى الأصلي، فعنوانه ضرورة تأدية الضرائب، مع فارق أنه في حالة الأيديولوجية الدينية، تكون الآثار مرتفعة، لأنها كانت تنهل من المقدس.

بل يعتقد أتباع الأيديولوجية أن رموزها تكاد تُؤخذ من كلامهم، ولا يُردّ، من قبيل ما نعاين مع أتباع التشيع في تعاملهم مع أعمال الخميني، أو أتباع السلفية الوهابية في تعاملهم مع أعمال ابن تيمية، أو أتباع جماعة “العدل والإحسان” في تعاملهم مع أعمال عبد السلام ياسين، وغيرهم كثيرون.

وجب التذكير هنا أننا نعاين الظاهرة نفسها مع أتباع هذا المشروع العلمي أو ذلك، من قبيل ما نعاين مع أتباع محمد أركون، أو حسن حنفي، أو طه عبد الرحمن، …إلخ، مع فارق أن هؤلاء لا يقدّسون، وإن كانوا يبجّلون، ولكنهم مطالبون بالتحرر من سياق فكري مغلق، حتى لا يصبحوا مجرّد مقلدة لما يصدر عن المفكر المعني، دون أي اعتراض أو نقد فالأحرى النقض.

ما زال إصرار العقل الإسلامي الحركي على ممارسة التقية أو الازدواجية، في مقدمة الأسباب التي تغذي غياب الثقة مع مجتمعات وأنظمة المنطقة، ونتحدث عن معضلة نظرية تميز الجهاز المفاهيمي الإسلامي الحركي بشكل عام، خاصة الجهاز المفاهيمي للمشروع الإخواني، حيث يعتقد -عن سذاجة أو حسن نية- أن ممارسة التقية، بهدف خدمة مشروعه السياسي، يمكن أن تساعده في حرق مراحل هذا المشروع، هذا إذا افترضنا جدلاً أن مآل المشروع، أي تأسيس “دولة الخلافة” مثلاً، مرحَّب به في الساحة، وهذا أمر خارج دائرة التفكير عند شعوب المنطقة، فالأحرى أنظمتها.

بين أيدينا مثال تطبيقي، يصبّ في هذا السياق، عنوانه ما يُصطلح عليه “الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي”، عند ثلاثة فروع للمشروع الإخواني في المنطقة، خلال الأعوام الأخيرة، وهي المشاريع الإخوانية في المغرب وتونس وفرنسا، وسوف نقتصر على الحالة المغربية من باب الاستئناس.

يتعلّق بما يصدر عن الإسلاميين هنا، من الذين يُصرّون في المقالات والدراسات والندوات على أنهم يفصلون بين العمل السياسي والعمل الدعوي، لولا أن هذه الدعوة تفندها مجموعة من الوقائع، أقلّها ما نعاينه في تفاعل أتباع هذه “المَجَرة الإخوانية” (من فاعلين في الحركة الإسلامية، والحزب الإسلامية والنقابة والتنظيم الطلابي ونظيره النسائي والإعلام والكتائب الإلكترونية، …إلخ)؛ حيث يُصبح الخطاب موحَّداً بين جميع هؤلاء، بلا أدنى تمييز بين الخطاب الدعوي والخطاب السياسي، ويمكن التأكد من هذا المعطى عبر إطلالة سريعة على الحسابات الإخوانية في مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث نكتشف الشيء الكثير من فرط هذا الإصرار الصريح على ممارسة التقية في الفترة الزمنية التي تمتدّ بين الاستحقاقات الانتخابية، مقابل التخلي عن التقية في مرحلة الاستحقاق.

ورغم دلالات هذه الوقائع التي لا ترتفع، ما نزال نقرأ بين الفينة والأخرى مقالات ودراسات لباحثين وإعلاميين من المشروع، تسلط الضوء على مغالطة فصل السياسي عن الديني في العمل الإسلامي الحركي، وواضح أن هذه رسائل موجهة للطمأنة الأمنية والسياسية وغيرها، ولكنّها غير ذات أهمية، من فرط التناقضات الصادرة عن هؤلاء.

الشاهد هنا، أن معضلة التقية، توجد ضمن الأسباب الموضوعية المغذية لغياب أجواء الثقة بين المشروع الإسلامي الحركي، وشعوب المنطقة ومعها أنظمتها.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.