دينبريس
يشهد معرض الرياض الدولي للكتاب توقيع كتاب «الملف الأفغاني» في طبعته العربية للأمير تركي الفيصل آل سعود، رئيس الاستخبارات العامة السعودية الأسبق، الذي يقول في مقدمة هذه الطبعة: «استعدت مواقفَ عدة عشتُها في أثناء زياراتي المتعددة لأفغانستان وباكستان إبّانَ عملي في رئاسة الاستخبارات السعودية، وهنا تذكرتُ ما طلبه مني الملكُ عبدُالله بنُ عبدالعزيز ـ رحمه الله- حين كان وليا للعهد، بأن أدون ما عشته من تجارب في الملف الأفغاني الذي كنت لوقت طويل مسؤولاً عنه..
لقد واجهت المملكةُ حملاتٍ إعلامية وسياسية ظالمة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أرادتْ تحميلها وِزرَ تنظيم القاعدة وتعنُّت حكومة طالبان آنذاك، وكانت مواقفُ المملكةِ المعلنةُ ومحاربتها للتنظيمات الإرهابية صريحةً بما لا يحتاج إلى برهانٍ أكثرَ من كونها الدولةَ الأولى التي استهدفها تنظيمُ القاعدة، لكن كان لا بُدَّ من الشروع في تدوين رؤية المملكة لما حدث، وتاريخها مع الجهاد الأفغاني والاحتلال السوفيتي لأفغانستان، والدول التي ساهمت مع المملكة وباكستان في دعم المجاهدين لدحر هذا الاحتلال».
يشير الفيصل في المقدمة إلى أنه «كانت دوافعُ الدول التي دعمَت الفصائلَ الجهادية الأفغانية لطرد المحتلين السوفييت متعددةً، لكن معظمَها كان متعلقاً بأجواء الحرب الباردة بين القوتين العظميين آنذاك، وبالتالي كانت القواعدُ الإستراتيجيةُ الدولية تُلِحُّ على اللاعبين الغربيين لتقويض محاولات الاتحاد السوفيتي مدَّ نفوذه وخلقَ أنظمةٍ تابعةٍ له.. فيما كانت المملكةُ تجمعُ بين سياستها ومبادئها، كانت المصلحةُ السعودية ألّا يزدادَ التمدُّدُ الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط، وأن تتوقفَ الانقلاباتُ والثورات الاشتراكية التي زعزعَت استقرارَ عددٍ من البلدان وأفقرَتْها وجعلَتْها مستتبعةً سياسيّاً لموسكو، لكنَّ هذا لم يكن الدافعَ الحقيقيَّ الوحيد، لقد رأَت المملكةُ شعباً مسلماً شقيقاً يتعرَّضُ لحملة سياسية وعسكرية عنيفة لتغيير نظامه ثم احتلال أرضه وتشريد شعبه، فاتخذ الملوكُ السعوديون المتعاقبون موقفاً حاسماً بدعم أفغانستانَ وشعبِها ضدَّ هذا الاحتلال، وجنَّدَت المملكةُ كلَّ جهد ممكن لمساعدة الأفغان على نَيْل استقلالهم وتكوين حكومةٍ يرضَوْن عنها، على ما سَيَرِدُ مُفصَّلاً في الصفحات القادمة».
توضيح موقف
يضيف الفيصل: «خدمتُ بلدي رئيساً للاستخبارات العامة ـ جهازِنا المسؤول عن الاستخبارات الخارجية ـ 24 عاماً؛ منذ أواخر عام 1977 حتى أغسطس 2001، وكان هذا الجهاز مسؤولاً عن تعاملاتنا مع أفغانستان، وعلى غير ما هو مُتوقَّعٌ كنتُ مهتمّاً طيلة المدة التي قضيتُها في منصبي بهذا البلد البائس أكثرَ من أي شيء آخر، وقد انقسم عملي على ثلاث مراحل: أولاً، كان دعمُنا لمقاومة المجاهدين للاحتلال السوفيتي لأفغانستان، وهي عمليةٌ عَمِلنا فيها مع باكستان والولايات المتحدة، وعلى نطاقٍ أصغرَ مع بريطانيا وفرنسا ومصر، ثم بعد الانسحاب السوفيتي عام 1989، عندما بدا ـ للأسف ـ أن القوى الغربيةَ فقدت اهتمامَها بالبلاد، أطلقنا سلسلةً من المبادرات لمحاولة وقف اقتتال فصائل المجاهدين، وتشكيل حكومة مستقرة، وفي هذا الصدد كُنّا نعمل مع باكستان أخيراً، بعدَ وصول طالبان إلى السلطة عام 1996، أمضينا سنوات نحاول، إقناعَ هذا النظام بتسليم أسامة بن لادن».
ويضيف: «أسهم فشلُ الروس في أفغانستان في إضعاف روحهم المعنوية الاجتماعية الداخلية، وهو سبب رئيس لانهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991، بعد أقلَّ من ثلاث سنوات على انسحابه العسكري، وكانت الحرب ضدَّ المحتل، وما أعقبها من عدم الاستقرار في أفغانستان، سبباً في إنتاج تنظيم القاعدة ورعايته، وكان تنظيمُ القاعدة هو من نفَّذَ الهجماتِ على المملكة ابتداءً من 1995، وتلاها هجوم الحادي عشر من سبتمبر على أمريكا، وهو الأمرُ الذي أدَّى بعدَ ذلك إلى «الحرب على الإرهاب».
ويكمل: «القصةَ لا تدورُ حولَ كارثة تقود إلى أختها، فهناك موضوعٌ مُرعِبٌ يَنْظِمُ حلقاتِ جميع الأحداث، وأصبح لعنةً على العالم الحديث؛ ألَا وهو ظهورُ وتمكين الشباب ذوي الذكاء المحدود، والتعليم الأدنى، وانعدام الفَهم المطلق لتعقيدات العالم، الذين أصبحوا يعتقدون أن لديهم مهمةً لتغيير العالَم باستخدام العنف، وهم من تلك النوعية التي ستُؤمن بنظريات المؤامرة بدلاً من محاولة تعلُّم وفهم كيف تجري الأمور فيما يتعلق بالاقتصاد والسياسة الدولية والمجتمعات الحديثة، إنهم يشعرون بأنهم منبوذون، ويكرهون العالَم المُعقَّد الذي يرونه من حولهم، ولا يبدو أنهم قادرون على تحديد الغَرَض من رسالتهم بسهولة، إذ لا يُمكنهم أن يقولوا كيف سيُغَيِّرُ عنفُهم العالَمَ، أو ما النتيجةُ النهائية التي يسعَوْن إليها، أولئك هم الأشخاص الذين يُشكِّلون ما تبقى من القاعدة وفروعها في بلدان مختلفة، وبقايا داعش وفروعها، وجماعة بوكو حرام في شمال نيجيريا، وما يبدو أنه عددٌ كبيرٌ من المجموعات الصغيرة أو الأفراد الإرهابيين العاملين في جميع أنحاء العالم».
ويضيف: «يعود أصلُ طريقة التفكير هذه في الآونة الأخيرة إلى ظهور القاعدة، التي أنشأها أسامة بن لادن في أفغانستان، أقنع أسامةُ وأتباعُه أنفسَهم بأنهم لعبوا دوراً رئيساً في كسب الحرب ضدَّ المحتلين السوفييت، رغم أنه ـ في حدود ما تمكنت من اكتشافه ـ لم يكُن لهم أيُّ دور على الإطلاق في ذلك..
ويبدو أن المعركةَ التي ادَّعى أسامةُ أنه خاضها في أفغانستان لم تَدُرْ أحداثُها إلّا في مخيلته فقط، وبعدَ أن غادر أسامةُ أفغانستانَ، جاءني أولَ مرة ليقترح أن يتولى أتباعُه وحدَهم الإطاحةَ بالحكومة الشيوعية لجنوب اليمن، وبعد ذلك بقليل اتصل بوزارة الدفاع السعودية ليقترحَ أنه لم تكُن هناك حاجة لتحالُف عسكري دولي، وأن المجموعةَ نفسَها يُمكنها طردُ الغزاة العراقيين من الكويت، ولا يمكنني تخيُّل تسلسل التفكير الذي قاده إلى هذا الاستنتاج! في تصريحاته اللاحقة دعا أنصارَه في كل مكان إلى الجهاد ضدَّ مزيج غير عادي من الصهاينة، والولايات المتحدة التي ادعى أنها احتلت الأماكنَ المقدسة في المملكة، والحكومة السعودية وحلفائها العرب والغربيين، مُسَوِّياً بين المسلمين وغيرِ المسلمين».
الغزو والرد
يسترسل الفيصل: «كنتُ مواظباً على عادة أبي، الملك فيصل -رحمه الله- في الاستماع إلى أخبار محطة الـ(بي بي سي) في السابعة مساءً، كان أبي يتابع الأخبار عبرَ مذياع من طراز (Zenith) الذي يعمل بالبطارية، ويستمع إلى أخبار الـ(بي بي سي) باللغة العربية، ثم يدير المؤشرَ ليستمع إلى عناوين الأخبار من صوت أمريكا، ثم يتنقل بين المحطتين للاستماع إلى ما كان يأملُ أن يكونَ أفضلَ ما في كلتَيْهما، بعدَ نصف ساعة، كان السكرتيرُ يُعِدُّ له النصوصَ الكاملة مطبوعةً على الورق.
كانت السابعة مساءً بتوقيت الرياض يوم 24 ديسمبر 1979، وكنتُ أتابعُ الخدمةَ العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية، حين سمعتُ الأخبار التي تفيد بأن الاتحاد السوفييتي قد غزا أفغانستان، وكانت العملية قد بدأت مع حلول الظلام في كابول قبلَ حوالي 3 ساعات».
كانت الأخبار قاتمةً، لكنها لم تكن غيرَ مُتوقَّعة على الإطلاق، فلشهور كنا نشعر أن الروس يتجهون نحوَ التدخل العسكري المباشر في أفغانستان، في وقت مبكر من اليوم التالي، 25 ديسمبر، ذهبتُ لرؤية الملك خالد خليفة أبي، وولي العهد الأمير فهد، اللَّذَين ساوَرَهما قلقٌ بشأن المدى الذي قد يصل إليه السوفييت في أفغانستان؛ فمنذ 150 عاماً كانت روسيا تطمح إلى الحصول على ميناء بمياه دافئة، ومنفذ على المحيط الهندي أو عبر الخليج أو بحر العرب، أو بشكل غير مباشر عبر البحر المتوسط..
كان الدافعُ الأكبر لـ«اللعبة الكبرى» ـ المنافسة بين بريطانيا وروسيا في أفغانستان وآسيا الوسطى في القرن الـ19 هو رغبة روسيا في اختراق المحيط الهندي، ورغبة بريطانيا في التصدي لها، بدا الأمرُ الآن لنا كما لو أن الروس يعودون إلى إستراتيجيتهم القديمة، وتساءلنا عما إذا كانوا سيُكملون عبرَ أفغانستان إلى باكستان، وربما يُثيرون المشكلاتِ في إقليمَي السند أو بلوشستان ويمضُون قُدُماً لاحتلالهما، وقد كان هذا مصدرَ قلق فوري وكبير لنا؛ فكراتشي، عاصمة إقليم السند، تبعدُ أقلَّ من 3 ساعات بالطائرة عن الرياض، وباكستان جارتنا تقريباً، وهي صديقة حميمة، ويعمل عدد كبير من الباكستانيين في المملكة».
كيف صرت رئيسا للاستخبارات
يشرح الفيصل كيف أصبح رئيساً للاستخبارات العامة في وقت الأحداث التي يدور الحديث عنها، ويقول: وُلِدتُ عام 1364/ 1945، وكان أبي الأمير فيصل بن عبدالعزيز، الذي حكم الحجاز، المنطقة الغربية من المملكة، لأبيه، وكانت والدتي عفت بنت محمد بن سعود الثنيان، وآل ثنيان هم فرع من عائلة آل سعود من نسل ثنيان بن سعود، شقيق مؤسس الدولة السعودية الأولى في القرن الـ18، ولما بلغت الخامسة من عمري، أُرسلت إلى مدرسة الطائف النموذجية للبنين والبنات لـ8 سنوات، ثم إلى مدرسة خاصة في الولايات المتحدة؛ ما يسميه الأمريكيون مدرسة «إعدادية»، ويسميه الإنجليز مدرسة «عامة»، وفي الـ18، في عام 1963، ذهبتُ إلى برينستون لدراسة الهندسة، ويؤسفني أن أقول: إن التجربة ـ من منظور أكاديمي- كانت كارثيةً؛ فقد رسبت في جميع المواد الهندسية، وطُلب مني بأدب المغادرة، وتوجهْتُ بعدَها إلى جورج تاون، حيث انتهى بي الأمر إلى دراسة إدارة الأعمال.
أخيراً، في عام 1973، عدتُ إلى المملكة، ذهبت لرؤية أبي، الذي كان قد أصبح الآن ملكاً، وفي نيتي أن أقول شيئاً على غرار: «أنا متاح لأي عمل تود الحكومة أن تكلفني به، وما الذي تنصحني به بهذا الشأن؟»، لكن لسوء الحظ، كان ما قلته هو في الواقع: «أودُّ أن تمنحَني وظيفةً»، ولم يُعجِب ذلك أبي على الإطلاق؛ فقد كان صارماً، ومقتصداً، ونزيهاً، فالتفت نحوي وقال بنفرة: «لم أمنح أيّاً من إخوتك وظيفةً، فلِمَ أمنحك أنت؟»، واستخدم عبارة ما زالت أصداؤها تتردد في مسامعي: «طالبُ الولاية لا يُولَّى».
وصرفني أبي طالباً مني أن أذهب وأجد لنفسي وظيفةً كما فعل إخوتي قبلي، ولحسن حظي لاحظ آخرون عودتي إلى المملكة، وكانوا يفكرون في كيفية تدريبي في الحكومة، وكان الشخصُ الذي ساعدني هو خالي كمال أدهم، الذي شغل منصب رئيس مكتب الاتصالات الخارجية، المسؤول عن الاتصالات مع وكالات الاستخبارات الأجنبية للدول الصديقة، من عام 1962 إلى عام 1977، وقد وجد كمال لي وظيفة «مستشار» -إلى حدٍّ ما متدرب في المراحل الأولى- في الديوان الملكي؛ المنصب الذي يوفر لي إعارةً إلى مكتب الاتصالات، وكان عملي متعلقاً باليمن، الذي لطالما اعتُبر ملفُّه في المملكة الاختصاصَ المهني لعمي الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران، وهكذا في وظيفتي الأولى كان رئيسي عمليّاً هو الأمير سلطان، رغم أنني كنت اسميّاً تابعاً لمكتب يرأسه كمال أدهم.
ترقية مفاجئة
يستطرد الفيصل: «بعد فترة عُيِّنت نائباً لمدير مكتب الاتصال، ثم في نهاية عام 1977 رُقِّيتُ فجأةً لأصبح رئيساً لجهاز الاستخبارات السعودي بأكمله، وذلك في إطار عملية إعادة تنظيم كبيرة لعملياتنا، في السنوات السابقة من الستينيات كان لدينا جهاز استخبارات، أحدهما كان مكتب الاتصالات الخارجية، الذي أنشئ للعمل مع أجهزة استخبارات حلفائنا، وخلالَ فترة حكم أبي، فعليا من 1962 إلى 1975، عمل هذا المكتب عملاً وثيقاً جدّاً معه، وكان كمال أدهم محلَّ ثقة أبي، أما الجهة الأخرى فكانت رئاسة الاستخبارات العامة، التي تمارس أنشطة جمع المعلومات بشكل اعتيادي، وترَأَّسَها الراحلُ عمر شمس، في نهاية عام 1977 حدثت أزمةٌ طالت كلتا الهيئتَيْن، عندما فشلتا تماماً في التنبؤ بالزيارة المفاجئة للرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل أو منعها؛ فتقاعد كلٌّ من كمال أدهم وعمر شمس، ودُمج المكتبُ في رئاسة الاستخبارات العامة، وعُيِّنتُ رئيساً للإدارة المُوَسَّعة..
ومنذ ذلك الحين أدرتُ رئاسة الاستخبارات العامة على مدار 24 عاماً، وسيَروي هذا الكتابُ قصةَ ما كان شغلي الشاغل حين كنتُ في هذا المنصب، جاءت فكرة الكتاب في الأصل من الملك الراحل عبدالله -ولي العهد في ذلك الوقت- الذي لاحظ أن «الآخرين جميعاً»، من الباكستانيين والأمريكيين والروس والأوروبيين، قد روَوْا قصة أفغانستان من وجهة نظرهم، وألقوا باللوم على المملكة في كثير من الأخطاء التي حدثت الآن، شعر وليُّ العهد أن على المملكة أن تقدم روايتها الخاصة للأحداث، وقد طلب مني أن أكتبَ مذكراتي الأفغانية».
شائعات وتحيزات
يجزم الفيصل «بالنظر إلى ما كتبه الآخرون، أجد أن هناك قدراً هائلاً مما يُنسب إلى المملكة دون أي دليل على الإطلاق، إلّا الشائعات والتحيزات، لقد قرأتُ -على سبيل المثال- أن جهازي موَّلَ مجموعات مقاتلين في أفغانستان خارجَ سياق خط إمداد الاستخبارات الأمريكية /السعودية/ الباكستانية، وأننا فيما بعدُ موَّلنا طالبان، لا سيما في حملاتها ضد المُدُن الأفغانية الرئيسة، وقد قيل لي: إننا منحنا الاستخباراتِ الباكستانيةَ أموالاً لتدفعها مكافآتٍ نقديةً لضُبّاط بعينهم، وإننا وسَّعنا ميزانيتها من خلال تزويدها بالنفط الرخيص لتبيعه، وهذا كلُّه عارٍ تماماً عن الصحة، يبدو أنه نظراً لأن المملكة لا تنشر باستمرار كل ما تفعله، فكلما أراد صحفي أو «محلل» أو سياسي بيانَ بعض المدفوعات الأفغانية التي لم يُعلن عن مصدرها، كان بإمكانه أن يدعي أنها أتت من المملكة، ومن رئاسة الاستخبارات العامة على وجه التحديد، حتى أصبحت الاستخبارات السعودية الملجأَ الذي يلجأ إليه أيُّ شخص يبحث عن تفسير لأي تدفق للأموال لا يمكنه تحديد مصدره بسهولة».
ويواصل «لأنني اعتمدْت شخصياً أيَّ دفعةٍ دفعها جهازي لأي حزب مشارك في أفغانستان منذ 1980 حتى عام 2001، يمكنني القول: إنه خلال فترة الاحتلال السوفييتي، كانت جميع الأموال التي وزعناها على المجاهدين في سياق خط إمداد الاستخبارات الأمريكية/ الباكستانية/ السعودية، وإن المدفوعات التي كانت خارج هذا السياق ذهبت إلى اللاجئين الأفغان في المخيمات حول بيشاور وكويتا، وفي 1990، بعد عام واحد من الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، حين أصبح المجاهدون يقتتلون فيما بينهم، أمر الملك فهد بإيقاف جميع الأموال الرسمية لأفغانستان لاحقاً، منذ 1992 عندما انهارت الحكومة الشيوعية في كابول، حاولنا المساعدة في إنشاء حكومة أفغانية جديدة مستقرة، ورعينا سلسلةً من مبادرات السلام التي تهدف إلى منع الفصائل الأفغانية من الاقتتال، ولم يُؤتِ شيء من هذه المبادرات ثماره، وكان مبدؤنا أننا لن نقدم أبداً الأموال لحزب أفغاني لمحاربة الآخر، ولم نوفر المال لطالبان قطُّ».
تبرعات سعودية
يبين الفيصل «خلال الفترة التي أناقشها، كانت هناك تبرعات سعودية خاصة كبيرة لجميع القضايا الأفغانية، ذهبَت معظم الأموال لمساعدة 3 ملايين لاجئ على الحدود الأفغانية الباكستانية، لكن لا بُدَّ أن بعضَ الأموال ذهبَت إلى الأحزاب السياسية، واستُخدمت لأغراض عسكرية، ماليّاً واقتصاديّاً، كانت المملكة -وما زالت- مجتمعاً حرّاً للغاية؛ لم تكن هناك (وما زالت لا توجد) ضريبة شخصية مباشرة -الاستثناء الوحيد هو الضريبة الدينية، الزكاة، التي تُفرض بمعدل 2.5% على الأصول السائلة للفرد، ولم تكن هناك ضوابط على الصرف على الإطلاق؛ كان الناس أحراراً في أن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون؛ أكثرَ حريةً مما كان عليه الناس في الغرب، أو مما هم عليه الآن. إذا أراد شخص ما أن يأخذ مليون دولار خارج البلاد في كيس بلاستيكي (أو في عدة أكياس)، فلن يتعرض له أحد بأي أسئلة، في الثمانينيات شجعت الحكومة القطاع الخاص على التبرع للجمعيات الخيرية التي تُرسل الأموال إلى أفغانستان».
ويكمل «منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قيدنا – في السراء والضراء- حريةَ مواطنينا في فعل ما يحلو لهم بأموالهم، لا سيما عندما يتعلق الأمر بإعطائها للجمعيات الخيرية، أو تحويلها إلى الخارج، ولم يكن هذا سهلاً على مجتمع لم يعتد على تقييد حريته المالية..
تلك هي القصة وراء الأفكار القليلة التي ذكرتها هنا، والتي أخطط لسردها في هذا الكتاب؛ وهي قصة تتألف من ثلاث مراحل واسعة: الحرب ضد الاحتلال السوفييتي والحكومة الأفغانية الشيوعية من 1979 إلى 1992، والمحاولات الفاشلة لتشكيل حكومة أفغانية مستقرة ذات قاعدة عريضة، بينَ عامَيْ 1992 و1996، وأخيراً، تعامُلُنا مع طالبان، ومحاولاتنا لإخراج أسامة بن لادن من أفغانستان منذ منتصف التسعينيات فصاعداً».
المصدر: جريدة الوطن السعودية
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15631