1 أغسطس 2025 / 21:30

الحداثة والحداثوية: الخيط الفاصل الدقيق

محمد زاوي

مِن سوء ما بلينا به في هذا الزمن أن يتحدث الناس عن مسائل لا دراية لهم بها، كحديثهم عن “حداثة متخيلة” في أذهانهم سرعان ما تستحيل في واقع الناس إما طرفا من أطراف ميزان القوى الداخلي إذا لزمت حدود هذا الميزان، وإما معولا من معاول عدم التماسك إذا تعدت تلك الحدود. ألا حظ لنا في حداثة ذهنية لا يبلغها واقعنا السياسي والجتماعي؟ ألا يفرض علينا التفاوت العالمي هذه الحداثة؟ ألا حق لنا في تشكيل ذهنية استراتيجية للمستقبل كتلك التي يزخر بها الصينيون واليابانيون والكوريون الخ؟ لنا في ذلك حق تحفظه دينامية المجتمع بين أمس وغد، بين تقليد وحداثة؛ بحيث يحفظ التقليد الحداثة حتى لا تنقلب على نفسها، فتصبح “حداثوية” للهدم لا حداثة للبناء؛ وبحيث تكبح الحداثة تمسك التقليد بشرطه القديم، وتحول بينه وبين وجهه الرجعي أي التقليدانية.

هناك آراء تتحدث عن حداثة قديمة، وأخرى تتحدث عن حداثة أبدية خالدة صالحة لكل مكان وزمن، وأخرى تتحدث عن حداثة عابرة للأقطار والقارات لا تحدها حدود أو شروط أو خصوصيات، وأخرى نقلت الحداثة من حيزها التاريخي إلى حيز ذهني منفصل عن التاريخ انفصالا كليا؛ كل هذه الآراء جعلت من الحداثة فكرة مثالية يعتنقها الإنسان كفلسفة أكثر مما يعيشها أو يقترب منها أو يختبرها -والأصح أنه ينتجها- كواقع وممارسة.

ارتبطت الحداثة في الغرب بثلاث ثورات؛ اقتصادية هي الأساس قادتها البورجوازية الصاعدة ضد الإقطاع، وسياسية قادها الفكر السياسي الليبرالي -البورجوازي أساسا- ضد سياسة “الحكم المطلق”، وفكرية وعلمية قادها فلاسفة ومفكرون وعلماء ومخترعون ضد تفاسير الكنيسة الإقطاعية للظواهر الطبيعية والإنسانية (راجع “الحداثة ومثقفو التبعية العربية الجديدة” لمصطفى فضل النقيب).. الحداثة إذن، هي كل هذه التحولات، وما كان لها أن تتحقق إلا بظهور طبقة اجتماعية جديدة تكونت في المجتمع الأوروبي على مدى خمسة أو ستة قرون، وما كان له أن توجد إلا بمساهمة كافة الدول الأوروبية بما في ذلك مساهمة الدول الإسكندنافية التي لا تكاد تذكر عن الحديث عن “عصر النهضة”، في حين تذكر دول أخرى كإيطاليا وفرنسا وإنجلتر وهولندا وألمانيا الخ.

أما المجتمعات العربية فقد عرفت الحداثة كإصلاح أولا، ثم كصدمة استعمارية ثانيا.. ولأن الإصلاح كان ترقيعيا سعى إلى التحديث العسكري والتقني والإداري فحسب، فقد بلغ مداه بالعجز عن رد “التشكيل الاستعمار” كفعل حديث أساسه رأسمالي احتكاري.. الاستعمار نفسه نزع إلى تحديد عملية التحديث في المستعمرات بحدود مصالحه، ففرض القيود على البورجوازية المغربية حتى لا يعيد تجربة “البورجوازية الأمريكية” في علاقتها بالرأسمال البريطاني.. وإلى اليوم ما زالت عملية التحديث محدودة في الوطن العربي بحدود السلطة من جهة، وبحدود الاستعمار من جهة ثانية.

تدبر السلطة ميزان القوى الداخلي حفظا لموقعها وحفظا لتماسك المجتمع، وموقعها من تماسك المجتمع، خاصة إذا بني هذا التماسك على أساس من التقليد والمحافظة.. هذا ويعمل الاستعمار على استدامة “التقسيم الدولي للعمل” بالتحكم في وتيرة التحديث في هذه الدولة أو تلك، حتى لا يحول تقدم قوى الإنتاج في دول التبعية دون استمرار هذه الأخيرة.. بهذه الثنائية، يمكن تفسير بطء عملية التحديث في الوطن العربي.. وما يزيدها بطئا الهجوم الذي تتعرض له “عناصر التماسك والربط” في عملية تحديث مقلوبة يراد من خلالها نسف تلك العناصر في بنية اقتصادية وسياسية “متخلفة” وتبعية وغير كاملة التحديث.

الطريق السليم والسديد للتحديث في الوطن العربي خاضع بالضرورة لشروط تاريخية لا ينبغي إغفالها: واقع التبعية والاستعمار بأساليب جديدة، تفاوت الوعي السياسي لدى النخبة المجتمعية، حاجة السلطة إلى التقليد لممارسة الحكم ومواجهة الاستهداف الخارجي، ميزان القوى الدولي بين نماذج الحداثة المختلفة… وبالتالي فكل حديث عن الحداثة والتحديث دون استحضار هذه الشروط يتحول إلى ضرب من الرجاء الحداثي في انتظار ما ستسفر عنه الشروط التاريخية!