دين بريس ـ سعيد الزياني
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، أضحت الساحة السياسية والأمنية مسرحا لتشابكات معقدة بين تيارات الإسلام السياسي والجماعات السلفية الجهادية، وقد عزز هذا الواقع حالة من الضبابية لدى المحللين وصناع القرار، حيث اختلطت الحدود بين الاتجاهات الإصلاحية المعتدلة والمشاريع المتشددة العابرة للحدود.
ويهدف هذا التحليل إلى تفكيك هذا التداخل الظاهري وتحليل التمايزات الفكرية والتنظيمية بين أبرز الفاعلين، وعلى رأسهم هيئة تحرير الشام وجماعة الإخوان المسلمين السوريين.
برزت هيئة تحرير الشام كامتداد محلي لجبهة النصرة، التي كانت على صلة بتنظيم القاعدة، لكنها عمدت إلى إعادة تموضعها استراتيجيا بعيدا عن الخطاب الجهادي العالمي نحو أجندة محلية ذات طابع سياسي، وفي المقابل، يواصل الإخوان المسلمون السوريون اعتماد نهج الإسلام السياسي التقليدي القائم على المشاركة السياسية والمرونة الأيديولوجية. وبينما يُصور البعض العلاقة بين الجانبين كتماهٍ إيديولوجي، تشير الشواهد إلى وجود تباين جوهري في المنطلقات والأهداف.
مشروع هيئة تحرير الشام: تحولات بنيوية واستراتيجية
تمثل هيئة تحرير الشام مثالا حياً على تطور الجماعات الجهادية نحو نماذج أكثر براغماتية، فقد تحولت من تنظيم جهادي عابر للحدود إلى فاعل محلي يسعى إلى بناء نموذج حكم يُوازن بين الصبغة الدينية والمقتضيات العملية. وتشمل ركائز مشروعها السياسي والاجتماعي:
ـ التركيز على قضايا الداخل السوري، مع تقليص الاهتمام بالأجندات الإقليمية أو الأممية.
ـ اعتماد خطاب يتسم بالانفتاح النسبي تجاه الأقليات الدينية، تجلّى في إداناتها لحوادث مثل إحراق شجرة عيد الميلاد في مناطق سيطرتها.
ـ اتخاذ مواقف حذرة تجاه إسرائيل، مع التركيز على قضايا الاحتلال السوري دون الدخول في مواجهات مباشرة.
ـ الحفاظ على البنى الاقتصادية القائمة، وتجنب فرض تغييرات جذرية على النسيج الاقتصادي المحلي.
ـ تعزيز الانفتاح الدبلوماسي على الدول العربية والإقليمية، وإرسال إشارات إيجابية بشأن التعاون المستقبلي.
ـ تبني سياسة أمنية براغماتية تشمل التعاون مع أجهزة استخبارات إقليمية في قضايا مشتركة.
ـ الإعلان عن القطيعة مع التنظيمات المتشددة مثل القاعدة وداعش، في محاولة لتلميع صورتها دولياً.
الإخوان المسلمون وهيئة تحرير الشام: مقاربات متباينة
بالرغم من المزاعم التي تربط بين الإخوان المسلمين وهيئة تحرير الشام، تكشف المعطيات عن اختلافات بنيوية ومنهجية بين الطرفين، فالإخوان المسلمون، بوصفهم فاعلا في الإسلام السياسي، يفضلون آليات التغيير التدريجي عبر المؤسسات السياسية، ويؤمنون بإمكانية التعايش مع الأنظمة الديمقراطية الهجينة.
أما هيئة تحرير الشام، فعلى الرغم من تبنيها خطابا أكثر انفتاحا، إلا أن مشروعها السياسي لا يزال محكوما بإطار ديني صارم يُبقيها أقرب إلى النموذج الجهادي المعدّل. ومن هنا، فإن الادعاءات بوجود تحالف إيديولوجي بين الطرفين تبدو محاولة لتوظيف الساحة السورية لخدمة أجندات إقليمية.
وشهد العقد الأخير تغيرات جذرية في تعامل القوى الدولية مع الحركات الإسلامية، فقد أظهر الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان في 2020 استعدادا للتفاوض مع الجماعات ذات الطابع الإسلامي إذا ما أبدت استعدادا للتكيف مع المعايير الدولية. وفي السياق السوري، قد يُنظر إلى هيئة تحرير الشام كنموذج مرشح لاتباع مسار مشابه، شريطة نجاحها في تجاوز إرثها الجهادي.
ومع ذلك، فإن مسار التحولات لدى هيئة تحرير الشام يظل مرهونا بعوامل داخلية وخارجية، بما في ذلك طبيعة التحالفات الإقليمية والضغوط الدولية، فضلا عن الديناميات المحلية في سوريا.
بين التحول والاستمرار
تكشف المعطيات الراهنة عن فجوة واضحة بين الجماعات السلفية والجماعات الإسلامية السياسية في سوريا، ففي حين تعمل هيئة تحرير الشام على إعادة صياغة هويتها لتقارب نماذج الإسلام السياسي، لا تزال جماعة الإخوان المسلمين متمسكة بنهجها التقليدي القائم على المشاركة السياسية.
ومع استمرار التحولات في المشهد السوري، يصبح من الضروري مراقبة هذه الجماعات عن كثب، لا سيما في ظل التداخل المتزايد بين الأبعاد الدينية والسياسية، ويبقى التساؤل مفتوحا حول ما إذا كانت هيئة تحرير الشام قادرة على التحول إلى حركة إسلام سياسي مقبولة دوليا، أم أنها ستظل عالقة في إرثها الجهادي، مما يعوق طموحاتها السياسية.
إن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على مدى قدرة الهيئة على مواصلة فك ارتباطها بالجذور الجهادية، ونجاحها في تقديم خطاب يُطمئن الأطراف الدولية والإقليمية. وفي المقابل، يبقى الإخوان المسلمون في سوريا لاعبا مهما، وإن كان أقل بروزا، ضمن المعادلة السياسية المستمرة.
وفي المحصلة، فإن المشهد السوري يظل مختبرا حيا لتطورات الحركات الإسلامية، حيث تتقاطع المصالح المحلية والدولية في صياغة مستقبل هذه التنظيمات وحدود أدوارها المحتملة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22433