11 أبريل 2025 / 15:16

الجماعات الإسلامية ومأزق تقديس القيادات باسم التأصيل الشرعي

نور الإسلام بن عباس
قرأت قبل قليل منشورًا لأحد قيادات الصف الأول في أحد الأحزاب الإسلامية، يتحدث فيه بلهجة تقريرية صارمة عن “مفهوم الجماعة” و”الصف” و”الولاء”، ويقرنها بالحزب الذي ينتمي إليه، كأنّ الخروج عن رأي التنظيم خروج عن الجماعة بمفهومها الشرعي، والحقيقة أنه لا يمكن الاستمرار في استدعاء النصوص القرآنية التي تتنزل في سياقات الجماعة المؤمنة الأولى، وفي ظل القيادة النبوية المعصومة، لتطويق الواقع الحزبي الحديث، وفرض سلطة تنظيمية لا تستمد مشروعيتها من تحقق شرعي أو أخلاقي، بل من محض التراتبية الحزبية وولاء التنظيم… والفرق النوعي بين الجماعة الرسالية الأولى ومشتقاتها الحديثة في الزمن السياسي للدولة الوطنية، هو فرق في البنية والسياق والغاية… والتشابه في الهيكل لا يبرر المطابقة في الشرعية.

والأحزاب الإسلامية، مهما بلغ خطابها من الإلحاح على المرجعية الدينية، ليست أكثر من أدوات تدافعية في الفضاء العمومي للدولة الحديثة، وهي جزء من بنية المنظومة نفسها الذي تأسست في ظلها، وتشترك في منطق اشتغالها، سواء على مستوى بنية السلطة، أو مفهوم التمثيل، أو آليات الاشتغال المؤسساتي.. ومحاولة تطهيرها من هذا السياق السياسي التاريخي وتقديمها كجماعة طاهرة تمارس القيادة الشرعية، لا يخلو من نزعة تسويغية خطيرة…إذ ليس ثمة ما يبرر تحويل الخروج عن رأي الحزب، أو نقد بنيته، إلى خروج عن الجماعة، أو إثما يستوجب التصنيف في خانة “أعداء الصف”.

كما أن من يقود هذه الأطر لاتتوفر فيهم شروط القيادة بالمعنى الشرعي فلا هم من أهل الرسوخ في العلوم الشرعية، ولا هم من أهل النظر العميق في علوم الواقع، بل صعدوا في الغالب بفضل مراكمة الأقدمية الحزبية والولاء للتراتبية التنظيمية، وهي خصائص تخلق طبقة بيروقراطية حزبية أكثر منها نخبة قيادية… هذا الانتقال من مفهوم “القيادة الشرعية” إلى مفهوم “الإدارة التنظيمية” الذي يحكمه مبدأ الولاء والانضباط، لا يعكس تطورا في الرشد الجماعي، بل يفضح تحلّلًا من المعايير المعرفية والروحية التي ينبغي أن تؤسس لفكرة القيادة في أي مشروع يحمل ادعاءً إسلاميًا…

وكما يرى طلال أسد، في تحليله للدولة الحديثة فإن المجال الديني نفسه قد أعيد تشكيله ضمن حدود السيادة الحديثة، وأن الفاعلين الدينيين باتوا يتحركون ضمن شروط المنظومة لا خارجها… ومن هنا فإن الحزب الإسلامي لا يمكن أن يشتغل بمنطق الجماعة الدينية الأصيلة، لأنه واقعيا جزء من جهاز المظومة، ويعمل ضمن منطقها، بل أحيانًا بوظيفة ضبطية أكثر مما هي تحررية، إذ يتحول (عن قصد أو دونه) إلى أداة للضبط الرمزي للأخلاق والولاء باسم الدين.

ونموذج “الولاء والبراء” الذي يقدمه هؤلاء ليس أكثر من أن يكون مجرد انخراط في آليات انضباط لا دينيّة بالضرورة، لكنها تكتسب شرعية مستعارة من الرموز الدينية.. وهذا ما يفسّر كيف يتحوّل الخطاب الحزبي إلى خطابٍ يطالب بالولاء العقائدي، وهو في جوهره مطالبة بالطاعة الإدارية المؤسسية.

ومحاولة إضفاء الطابع الشرعي على الإطار التنظيمي الحزبي ليست سوى عملية تأليه مستترة لوسيط تاريخي، لا يمكن أن يكتسب صفة القداسة ولا وظيفة الجماعة المؤمنة ولا أن يختزلها ويحتويها، لأنه ببساطة ليس أكثر من شكل من أشكال الحداثة السياسية الإسلامية، التي ينبغي التعامل معها كأدوات، كوسائل، لا كغايات ولا كوحي منزل. ولعل أعظم ما يمكن أن تصنعه القراءة القرآنية اليوم هو فضح هذا التماهي بين الوسيط والأصل، بين التنظيم والدين، بين الطاعة المؤسسية والولاء الشرعي.

ولا يمكن تحصين الجماعة من التفكك بالتحايل على القرآن لتبرير استقرار البنية التنظيمية، بل يكون ذلك فقط بإعادة إنتاج المعنى الأخلاقي للجماعة كما هو بالفعل، وإلا فلن تكون التنظيمات الإسلامية سوى أشكال من “البيروقراطية المقدسة”.
ــــــــــــــ
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك