زكريا نمر. باحث من السودان
في كل مقهى، وفي كل مجموعة واتساب ثقافية، لا بد أن تصادف ذلك النموذج الفريد من نوعه: المثقف الفاشل. هو ليس غبيًا ولا جاهلًا، بالعكس، إنه يقرأ كثيرًا، يقتني كتب الفلسفة والسياسة والتاريخ، ويستطيع أن يحدثك عن هيدغر أكثر مما يحدثك عن نفسه، وعن فرويد أكثر مما يعرف عن مشاعره.
لكنه في النهاية، لا يترك وراءه سوى… كلمات. لا مشاريع، لا مبادرات، لا تغيير، لا أثر. هذا المثقف يستطيع أن يلقي محاضرة مطولة عن إشكالية الحداثة في المجتمع العربي و الأفريقي ، بينما لا يستطيع أن يصلح مصباحًا في غرفته. يتحدث عن العدالة الاجتماعية، وهو يطالب أمه بزيادة المصروف. يكتب عن ثورة الوعي، ويقضي يومه في التذمر من الواقع على فيسبوك.
إنه يشبه تلك الكتب القديمة التي تُعرض على الرفوف في صالونات البيوت الراقية شكل أنيق، ومضمون مهم لكن لا أحد يفتحه، ولا أحد يقرأه، والأسوأ: لا أحد يستفيد منه.
المثقف الفاشل يضع على كتفه عباءة المفكر العظيم، يتحدث بلهجة نرجسية وعبارات معقدة لا يفهمها حتى هو أحيانًا. يعيش داخل الفلسفة كما لو كانت نادٍ مغلق، ويتعامل مع بقية الناس كأنهم كائنات دونية لم تصل بعد إلى طور الوعي الوجودي.
لكن عند أول امتحان عملي، يغيب. هل يمكنه الانضمام لمبادرة توعوية؟: “لا وقت لدي، أعمل على مشروع نقدي مهم”. هل يمكنه التطوع في ورشة لطلبة المدارس؟: “أنا مفكر، لست مدرسًا”.
هكذا يتحول الفكر إلى غطاء للكسل، والثقافة إلى قناع للخمول، والتفلسف إلى حائط يتخفى خلفه من لا يملكون الشجاعة للنزول إلى الأرض.
المشكلة أن هذا النمط بات شائعًا. الثقافة صارت، في بعض الأوساط، مجرد موضة. هناك من يقرأ كي يبدو ذكيًا، لا كي يصبح إنسانًا أفضل. يقرأ كي يناقش، لا كي يسهم. يتحدث عن الحرية، لكنه لا يمارسها. يطالب بالمساواة، لكنه لا يحترمها. يهاجم السلطة، بينما يمارس تسلطه الفكري على الآخرين باسم الوعي.
الثقافة ليست بعدد الكتب التي قرأتها، بل بما فعلته بها. كم شخصًا ساعدته؟ كم فكرة جعلتها مشروعًا؟ كم مرة واجهت الواقع بدل أن تهرب إلى النظرية؟ أن تكون مثقفًا لا يعني أن تكون معزولًا في برج عاجي، بل أن تكون حاضرًا في الناس، ومع الناس، ومن أجل الناس.
فالعبرة ليست في أن تفهم هيغل، بل في أن تفهم نفسك أولًا، ومجتمعك ثانيًا، وتخدمهما ولو بكلمة صادقة، أو موقف بسيط.كفانا مثقفين يتقنون الكلام، ويفشلون في الأفعال. كفانا تنظيرًا فوق الأرصفة… نحتاج من يبلل قدمه في الشارع، لا من يجفف قلمه في الكتب.