16 أكتوبر 2025 / 09:57

التمييز بين الفتوى والرأي الفقهي والوعظ والإرشاد: ضرورة علمية ووطنية

محمد خياري

إن التمييز بين الفتوى، والرأي الفقهي، والوعظ، والإرشاد ليس ترفاً علمياً، بل ضرورة شرعية، ومطلباً وطنياً، وشرطاً للوحدة والنجاح. وعلى كل مهتم أن يدرك مقام كل قول، وسياق كل توجيه، ومصدر كل حكم، حتى لا تختلط الأمور، وتنتهك المرجعيات، ويفتي الناس بغير علم. فالدين أمانة، والفتوى مسؤولية، والوعظ رسالة، والرأي الفقهي اجتهاد، ولكل مقام مقامه، فلا يتجاوز، ولا يستبدل، ولا يخلط بينه وبين غيره.هذا يكتسب أهمية خاصة في زمن تتداخل فيه الأصوات، وتتشابك فيه المرجعيات، وتضيع الحدود بين القول المرسل والحكم المؤصل، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى التمييز بين المفاهيم الشرعية التي تشكل بنيان الفهم الديني الرصين. ومن بين هذه المفاهيم التي كثيرا ما تختلط على العامة، بل وأحياناً على بعض الخاصة: الفتوى، والرأي الفقهي، والوعظ، والإرشاد. فلكل منها مقامه، وسياقه، ومصدره، وأثره، ولا يجوز الخلط بينها أو المساواة في اعتبارها، لما يترتب على ذلك من اضطراب في التصور، وخلل في التنزيل، ولبس في المرجعية.

الفتوى ليست مجرد رأي يُلقى في مجلس، أو اجتهاد فردي يُنشر في مقال، بل هي بيان شرعي مؤصل يصدر عن جهة علمية ذات اختصاص حصري، وهي في المغرب الهيئة العلمية للإفتاء التابعة للمجلس العلمي الأعلى. هذه الهيئة تصدر الفتوى في قضايا الشأن العام والنوازل المستجدة التي تستدعي نظرًا جماعيًا، وتدقيقًا علميًا، ومراعاة للمصالح المرسلة، والمآلات المحتملة، وثوابت الأمة.والفتوى في هذا السياق ليست فردية، بل جماعية، تصدر عن جماعة من العلماء الراسخين في العلم، بعد مدارسة دقيقة، ومشاورة موسعة، وتحرير علمي رصين. ولا تكون الفتوى ملزمة إلا بعد أن تمر من إمارة المؤمنين باعتبارها الجهة الضامنة لوحدة المذهب، وحماية الدين، وصيانة الأمن الروحي للأمة. فليست الفتوى إذًا رأيًا يُتداول، بل هي توجيه شرعي رسمي له وزنه، وسلطته، وأثره في الواقع.

أما الرأي الفقهي فهو اجتهاد لا يلزم، ولا يُعد فتوى. هو اجتهاد فردي يصدر عن عالم أو فقيه في مسألة من المسائل، بناءً على فهمه للنصوص، واستنباطه من المذهب، وقدرته على الترجيح بين الأقوال. وهو رأي معتبر في سياق البحث العلمي والمداولات الفقهية، لكنه لا يُعد فتوى، ولا يُلزم الناس باتباعه، ولا يُنزل على الواقع إلا بعد تحقق شروط الفتوى الجماعية.قد يكون الرأي الفقهي صائبًا أو مرجوحًا، ويختلف فيه العلماء، ولا حرج في ذلك ما دام في إطار الاجتهاد المذهبي والضوابط العلمية. لكن الخطأ كل الخطأ أن يُقدَّم الرأي الفقهي على أنه فتوى، أو أن يُنزل على الناس دون مراعاة للسياق، أو يُوظف في الشأن العام دون المرور من الهيئة المختصة.

أما الوعظ والإرشاد فهما من وظائف المجالس العلمية المحلية التي تنتشر في ربوع المملكة، وتضطلع بدور بالغ الأهمية في توجيه الناس، وتذكيرهم، وتعليمهم، وربطهم بثوابت الدين، ومقاصده، وأخلاقه. والمجالس العلمية المحلية لا تُفتي ولا تُصدر أحكامًا ملزمة، بل تُرشد الناس إلى المعروف، وتُحذرهم من المنكر، وتُبسط لهم المعاني الشرعية وفق المذهب المالكي وثوابت الأمة المغربية.الوعظ خطاب تربوي، والإرشاد توجيه سلوكي، وكلاهما يُستمد من النصوص الشرعية ويُبنى على الحكمة والموعظة الحسنة، ويُراعي حال المخاطبين وظروفهم ومستوى فهمهم. وهو دور نبيل لا يقل أهمية عن الفتوى، ولكنه يختلف عنها في المصدر والمقام والأثر.

إن الخلط بين هذه المفاهيم يؤدي إلى اضطراب في المرجعية، وتعدد في المصادر، وتناقض في التوجيهات، مما يُضعف وحدة الصف، ويُربك الفهم الديني، ويُفتح الباب أمام التأويلات الفردية والتوظيفات السياسية والانحرافات الفكرية. ومن هنا، كان من الضروري أن يُفهم أن الفتوى اختصاص حصري، والرأي الفقهي اجتهاد غير ملزم، والوعظ والإرشاد وظيفة تربوية لا تُصدر أحكامًا شرعية ولا تُعالج النوازل.وقد اختار المغرب، في ظل إمارة المؤمنين، أن يُنظم الشأن الديني وفق هيكلة علمية دقيقة تحفظ وحدة المذهب، وتصون الأمن الروحي، وتُحصِّن المجتمع من الفوضى الفقهية والتشظي المرجعي. فالهيئة العلمية للإفتاء تُصدر الفتوى، والمجالس العلمية تُرشد وتُوعظ، والعلماء يجتهدون ويناقشون، لكن لا أحد يُفتي في الشأن العام إلا من خُوِّل له ذلك.