محمد علي لعموري
كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سريعتا البداهة عند الإنسان : التفكير والتكفير.
التفكير نشاط ذهني مركزه العقل وتجلياته شتى من كتابة وقول وخطابة ومختلف التعابير الموصلة إلى المعنى وإلى الفهم وبسط الأفكار من أجل خلف دينامية في التواصل والتفاعل الإنساني وبناء المعرفة والتأسيس لها لغويا وثقافيا لتكون عنوانا للحياة ونبضا للمجتمع.
أما التكفير فهو محاكمة للفكر وللمعتقد، ومصادرة لحرية التعبير ولحرية المعتقد، واقصاء للشخص من قائمة الانتماء إلى قانون الجماعة، وإخراج له من الدائرة المرتجة بالأعراف والتقاليد والنصوص المؤسسة للدوغما التي تتحكم في رقاب الأفراد باسم الجماعة ( أنظروا إلى الفهم الأعمى للحديث: لا تجتمع أمتي على ضلالة) !
التفكير في زمن التكفير تمرين صعب يعرض صاحبه للمساءلة ويضعه في مرمى الاتهام والوصم والاقصاء والمحاكمة الشعبية قبل أي إعمال للقانون، وبتعرض صاحبه للأحكام المسبقة من هنا ومن هناك انطلاقا من انفعالات الجمهور الذي يحتكم إلى عواطفه ويلغي عقله، لأنه يتأثر بالتحريضات التي تؤلبها جهة ما ضد أفراد يختلفون وإياهم في الفهم وفي القناعات وفي درجات الوعي والتمثل.
حدث هذا قديما فحوكم سقراط وأرغم على تجرعه سم الشوكران، فمات سقراط فما ماتت فلسفته حتى أصبح يلقب بأبي الفلاسفة.
حوكم أبو الوليد بن رشد وأحرقت كتبه ومات منفيا عن بلدته وما ماتت فلسفته التي كانت تدعو إلى التوفيق بين الفكر الديني والفكر الفلسفي.
وفي القرن العشرين تم تكفير مصطفى عبد الرازق من خلال كتابه ( الإسلام وأصول الحكم) وتم طرده من الأزهر وهو الأزهري الذي صرح بعد بحث مستفيض أن نظام الحكم في الإسلام متروك للتوافق والتنافس على الأسلوب والطريقة التي تخدم الديمقراطية ونفى أن تكون للحاكمية إلى الله أساس ديني.
وكفر طه حسين من بعده، لأنه شكك في مصادر التراث الشعري الجاهلي، وجادل في بعض المسلمات، فقامت الدنيا ولم تقعد وهو الضرير الذي حصل على الدكتوراه من جامعة السربون العريقة ونال منصب وزير للثقافة في مصر، ولقب بعميد الأدب العربي.
ثم جاء الدور على فرج فوده الذي دعا إلى العلمانية سبيلا نحو الخروج من هيمنة رجال الدين على مصائر الناس، والتأسيس لفكر سياسي حداثي يقطع الطريق على الفقهاء وتجار الدين كي يتحكموا في المجتمع ويسيروا الحكم ويعبثوا بالسياسة ( تسييس المتعالي حسب رأي الجابري)، فتمت تصفيته وتفرق دمه بين العوام فكان قميص أحدهم بمثابة كبش الفداء الذي لبس القضية ولم يحاكم المحرضون على القتل ومنهم الشيخ محمد الغزالي وغيره ممن شاكسهم الراحل فوده وحرضوا على قتله بفتاواهم البائسة.
وبعده ستتم محاكمة نصر حامد أبو زيد انطلاقا من بعض كتبه، ومنها ” مفهوم النص” ، فتم تكفير الرجل بعد أن رفعت ضده قضية حسبة سعيا للتفريق بينه وبين زوجته، فهاجر إلى منفاه الاضطراري بهولندا، هناك حيث سيكتب كتابه “التفكير في زمن التكفير” الذي نستلهم منه عنوان هذا المقال.
أما نوال السعداوي التي رحلت عنا في يوم عيد الأم ؛ ويا لها من مصادفة عجيبة ؛ فقد عاشت حياة صراع مع السلطة السياسية والسلطة الدينية، فلكونها امرأة متحررة وقوية وذات قلم لا يحابي السلطة ولا ينتصر للمسلمات الشعبوية التي يؤمن بها ملايين الناس، ولأنها تعيش في المجتمع المصري الذي هو مجتمع شرقي ويتسم شعبه بالتدين وبالطقوسية، فقد لقيت هجوما متتاليا وشرسا من طرف من يؤلبون المجتمع على الأفراد انطلاقا من الأفكار الدينية التي يوظفونها لتصفية حساباتهم مع كل من يحاول الاقتراب من عرينهم المقدس، ومع كل من يسعى لتقويض سلطتهم وكشف زيف ادعاءاتهم.
تكبدت نوال السعداوي الصعاب وتحملت الهجوم عليها اعلاميا ونفيت اضطرارا إلى أمريكا، وهناك حاضرت تعلم طلاب العلم بجامعتها كيف يكون “أدب التمرد”، أي ذاك الأدب الذي يخدم قضية حقوق الإنسان وينتزع حقا عبر نقد الواقع وفضحه في قالب أدبي كما فعلت حين كتبت روايتها “سقوط الإمام” و ” الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة”…
هذه الأمثلة وغيرها يعج بها للأسف فضاؤنا الثقافي الذي اخترقته قوى المحافظة منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين التي أصبحت تنظيما له فروع في العالم الإسلامي، مثلما ساهم في انحسار المد القومي والتيار الاشتراكي وكذا التيار الحداثي ، الواقع العربي بعد هزيمة 67 أمام اسرائيل، واستلهام الثورة المقلوبة في ايران عام 79 وما صاحب ذلك من إمكان تعميمها على بلادنا العربية..
إن التفكير خارج السياج الدوغمائي المغلق(حسب تعبير محمد أركون) مخاطرة تعزل صاحبها وتضعه أمام مرمى سهام النقد الجارح والحكم المجاني المفضي إلى التصنيف في خانة المارقين، في حين أصبح التكفير نمط تفكير الدوغمائيين وحراس المعبد وفقهاء الفضائيات الذين احتكموا على وسائل التواصل واحتكموا إلى شعبوية الجماهير في شيطنة كل فكر حر يشتغل من أجل تحرير الشرط البشري من التبعية لحراس التقاليد البالية وللسياسات التي لا تنتصر للحق الإنساني في تجلياته السياسية والاقتصادية والثقافية.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14101