الدكتور محمد إكيج
يحتدم النقاش حول قضايا الميراث في أحكام الشريعة الإسلامية بين أنصار المحافظة ودعاة الحداثة، حيث يتشبث الأولون بعدم الاقتراب من أحكام الإرث باعتبارها أحكاما قطعية الثبوت والدلالة لا يجوز المساس بها لا بالزيادة ولا النقصان ولا التعديل، بينما يطالب الآخرون بضرورة المساواة فيها بين الذكور والإناث بدعوى ملاءمة القوانين الأسرية العربية والإسلامية مع مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي تؤكد على المساواة المطلقة في هذا المجال… وبين هؤلاء وأولئك، برز فريق ثالث يدعو إلى إعادة النظر في بعض قضايا الإرث الظنية والاجتهادية كبعض مسائل التعصيب الفقهي والقانوني، وما يسمى بالمسائل الشاذة في الفرائض (انظر هذه المسائل في مدونة الأسرة المواد من 360 إلى 368)، وتوريث ذوي الأرحام ونحوها من المسائل التي كانت دائما محل خلاف واجتهاد بين فقهاء المسلمين ومذاهبهم على مر التاريخ منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يوم الناس هذا.
وانطلاقا من هذا الرأي الثالث، سنحاول إبداء بعض الملاحظات حول أحكام التعصيب في الميراث كما هي مسطرة في مدونة الأسرة المغربية، وذلك في أفق تعديل بعض جوانبه التي تحتاج إلى تعديل، تحقيقا للإنصاف ورفعا للحيف الذي يطال بعض النساء بسبب إعمال قواعد التعصيب كما هي مقررة في بعض الفقه القديم.
أولا: مقتضيات التعصيب في مدونة الأسرة:
تناولت مدونة الأسرة مسائل التعصيب في القسمين الثالث والخامس من الكتاب السادس الخاص بقضايا الميراث، وتحديدا في المواد (334 إلى 340 من القسم الثالث) وفي المواد (348 إلى 354 من القسم الخامس). ففي القسم الثالث، ذكرت المدونة في المادة 334 أن أصناف الورثة أربعة: “وارث بالفرض فقط ووارث بالتعصيب فقط ووارث بهما جمعا ووارث بهما انفرادا”. وفي الفقرة الثانية من المادة 335 أوردت تعريفا للتعصيب كما يلي: “التعصيب أخذ الوارث جميع التركة أو ما بقي عن ذوي الفروض”. بينما بينت المادة 336 أن مصير التركة يؤول -كليا أو جزئيا -إلى العصبة ” إذا لم يوجد أحد من ذوي الفروض أو وجد ولم تستغرق الفروض التركة”. أما المادة 338 فبينت الحالات الثمانية التي يكون فيها الإرث بالتعصيب فقط وهي: “الابن، وابنه وإن سفل، والأخ الشقيق والأخ للأب وابنهما وإن سفل، والعم الشقيق والعم للأب وابنهما وإن سفل”. بينما حددت المادة 339 من يرث بالفرض والتعصيب جمعا، وهما الأب والجد. وتضمنت المادة 340 بيان حالات الوارث بالفرض أو التعصيب دون الجمع بينهما وهي أربع حالات: “البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب”.
– فالبنت، لها ثلاث حالات: (المادة 342 و345 و351 من مدونة الأسرة)
(أ) النصف إذا انفردت عن ولد الصلب ذكرا أو أنثى.
(ب) الثلثان إذا تعددت. (اثنتان فأكثر)
(ج) التعصيب مع شقيقها، للذكر مثل حظ الأنثيين.
-أما بنت الابن، فلها نفس حالات البنت في حالة عدم وجودها، وترث بالتعصيب مع أخيها وابن عمها المساوي لها في الدرجة، وتزيد على البنت حالة واحدة وهي: (المادة 347 من مدونة الأسرة) السدس تكملة للثلثين في حالة اجتماعها مع البنت الواحدة، لأن البنات لا يرثن أكثر من الثلثين.
– أما الأخت الشقيقة، فلها خمس حالات: (المواد 342 و345 و351 و352 و354 من مدونة الأسرة)
(أ) النصف إذا انفردت.
(ب) الثلثان إذا تعددت.
(ج) التعصيب مع شقيقها للذكر مثل حظ الأنثيين.
(د) مقاسمة الجد، إذا كانت المقاسمة أفضل له.
(هـ) تعصيبها مع البنت وبنت الابن.
– أما الأخت لأب، فلها نفس حالات الاخت الشقيقة، وتزيد حالة سادسة: (المادة 347 من مدونة الأسرة) السدس تكملة للثلثين إذا كانت مع الأخت الشقيقة.
أما القسم الخامس فخصصته المدونة للتفصيل في مسائل الإرث بطريق التعصيب.
وهكذا ذكرت المادة 348 أنواع العصبة الثلاث: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير.
أ – فالعاصب بنفسه: (المادة 349 من مدونة الأسرة): وهو الذي ليس في حاجة إلى من يقويه، ويحوز المال كله عند انفراده، أو يقسمه مع غيره، أو يحوزه بعد أخذ ذوي الفروض فروضهم، أو لا يحوز أي شيء إذا لم تُبْق السهام شيئا من التركة؛ ويندرج تحت هذا النوع: 1) الجد وإن علا بشرط انفراده 2) الأب بشرط انفراده كذلك 3) الابن 4) ابن الابن وإن سفل 5) الأخ الشقيق أو لأب 6) ابن الأخ الشقيق أو لأب وإن سفل 7) العم الشقيق أو لأب 8) ابن العم الشقيق أو لأب سفل أو علا كعم الأب أو الجد 9) بيت المال حيث تتولى السلطة المكلفة بأملاك الدولة حيازة الميراث.
ب – أما العاصب بغيره: (المادة 351 من مدونة الأسرة) هي كل أنثى يعصبها ذكر، حيث كانت سترث بالفرض، فحولها وجود الذكر إلى عاصبة بغيرها. ويندرج تحت هذا النوع أربع عاصبات 1) البنت 2) بنت الابن 3) الأخت الشقيقة 4) الأخت للأب. فكل واحدة يعصبها أخوها، وترث معه على قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين، وتزيد الأخت الشقيقة أو لأب بكونها يعصبها الجد، ويكون كأخ معها، وتزيد بنت الابن بكونها يعصبها ابن عمها المساوي لها في الدرجة.
ولا يتحقق التعصيب بالغير إلا إذا توفرت الشروط التالية:
1 – أن تكون الأنثى صاحبة فرض، فمن لا فرض لها من الإناث لا تصير عصبة بالغير ولو وُجد معها عاصب بالنفس في درجاتها وقوتها متحدا معها في جهة القرابة والانتساب إلى الميت وذلك كبنت البنت مع ابن الابن والعمة الشقيقة مع العم الشقيق.
إذ أن هؤلاء الإناث لا فرض لهن يرثن بالرّحم لا بالفرض فتكون التركة أو الباقي منها لهؤلاء العصبة من النسب بالنفس ولا شيء لهؤلاء الإناث لأن رتبة الإرث بالرحم متأخرة عن رتبة الإرث بالفرض أو بالتعصيب. وقد نصت مدونة الأحوال الشخصية التونسية على هذا المقتضى بشكل صريح في الفصل 120: “من لا فرض لها من الإناث وأخوها عاصب لا تصير عاصبة بأخيها كالعم مع العمة وابن العم مع بنت العم وابن الأخ مع بنت الأخ فالمال للعاصب وليس لأخته منه شيء”.
2 -أن يكون العاصب بالنفس متحدا مع الأنثى صاحبة الفرض من جهة القرابة فلا تعصب بنت الصلب ولا بنت الابن بالأخ الشقيق؛ فإذا توفى شخص عن بنتين أو ابنتي ابن وأم وأخ شقيق وأخذت البنتان أو بنتا الابن الثلثين فرضا وأخذت الأم السدس فرضا. وأخذ الأخ الشقيق الباقي تعصيبا.
3 -أن يكون العاصب بالنفس في درجتها بعد اتحادهما في الجهة: فلا يعصب الابن بنت الابن بل يحجبها وكما لا يعصب ابن الأخ الشقيق الأخت فتأخذ الأخت معه فرضها النصف إن كانت واحدة والثلثين إن كانت أكثر من واحدة والباقي لابن الشقيق تعصيبا.
4 -أن يكون العاصب بالنفس في قوة الأنثى صاحبة الفرض بعد اتحادهما في درجة القرابة وجهتها: فلا يعصب الأخ لأب الأخت الشقيقة بل تأخذ فرضها إذا وجد معها من حيث أنها أقوى قرابة لكونها ذات قرابتين إذ أنها تنتسب إلى الميت بقرابة الأب والأم وينتسب هو بقرابة الأب فقط.
ومن الواضح أن الذكر إذا كان صاحب فرض لا تصير به صاحبة الفرض عصبة به كالأخ لأم مع الأخت لأم. وإذا استغرقت الفروض كل التركة ولم يبق منها شيء يورث بالعصوبة فلا شيء للعصبات بالغير طبقا للمبدأ العام المتبع شرعا في توريث العصبات بالعصوبة بالنفس.
ج ـ أما العاصب مع غيره: (المادة 352 من مدونة الأسرة) هي الأنثى التي تصير عاصبة بسبب اجتماعها مع أخرى وينحصر هذا النوع في الأخوات الشقيقات أو لأب مع البنات حيث لا أصل ولا فرع ذكر، فالأخت الشقيقة أو لأب تصير عاصبة مع البنت أو بنت الابن وإن نزلت على أساس الأخوات مع البنات يصرن عصبات.
وتضمن ذات القسم تفصيلا عن ترتيب العصبة: والمراد بالترتيب تقديم عاصب على غيره لأنه أولى منه وأقرب إلى الهالك، والمعتمد في هذا التقديم هو النظر في ثلاثة أسس: (الجهة – الدرجة – القوة).
التقديم بالجهة: إذا تعدد العصبة بالنفس، فترجيح أحدهم على الآخر يتم بالجهة: البنوة، ثم الأبوة، ُثم الأخوة، ثم العمومة.
التقديم بالدرجة: إذا تعدد العصبة بالنفس واتحدوا في الجهة فإن الترجيح يتم بدرجة قربهم من الهالك، فيقدم مثلا الابن على ابن الابن، والأخ لأب على ابن الأخ الشقيق وهكذا.
التقديم بالقوة: إذا اتحد العصبة في الجهة والدرجة يتم الترجيح بقوة القرابة، فمن أدلى بقرابتين يقدم على من أدلى بقرابة واحدة مثاله: يقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب، والعم الشقيق على العم للأب.
وعموما فإن مدونة الأسرة وكذا بعض قوانين الأسرة العربية المقارنة، لم تخرج في مسألة التعصيب عما هو مقرر في المدونات الفقهية الموروثة سنية كانت أم شيعية، وهنا لابد من تسجيل بعض الملاحظات بخصوص هذه الآراء الموروثة التي تم تقنينها في مدونة الأسرة.
ثانيا: ملاحظات حول بعض حالات التعصيب الفقهي والقانوني:
الملاحظة الأولى: كون هذه النصوص تحصر العصبة بالنفس في الذكور دون الإناث، وهذا يؤدي إلى توريث الرجال دون النساء مع كونهم في مرتبة واحدة، ويتضح ذلك من خلال الصور التالية:
1/ مات رجل وترك: بنتاً، وابن أخ، وابن أخت. فللبنت النصف فرضاً، ولابن الأخ الباقي تعصيباً لأنه أولى رجل ذكر. أما ابن الأخت فلا شيء له لأنه يدلي للميت بأنثى. رغم أن ابن الأخ وابن الأخت في درجة واحدة.
2/ مات رجل وترك: أختاً، وعماً، وعمةً. فالأخت لها النصف والباقي للعم لأنه رجل ذكر. أما العمة فلا شيء لها لأنها أنثى مع أنهما في درجة واحدة.
3/ مات رجل وترك بنتاً، وابن أخ، وبنت أخ. فالبنت لها النصف، ولابن الأخ الباقي تعصيباً. أما بنت الأخ فلا شيء لها لأنها أنثى.
فالملاحظ في الصورة الأولى أعطي ابن الأخ؛ لأنه يدلي للميت بذكر. وحرم ابن الأخت لأنه يدلى له بأنثى. وفي الصورة الثانية أعطي العم لأنه ذكر، وحرمت العمة لأنها أنثى. وفي الصورة الثالثة أعطي ابن الأخ لأنه ذكر ، وحرمت بنت الأخ لأنها أنثى. والله سبحانه وتعالى يقول:﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾، فالآية تؤكد استحقاق الذكر والأنثى إذا كانوا في درجة واحدة بغض النظر عن مقدار إرثهما. فقد يكونوا متساوين كالأب والأم في حالة وجود الولد. أو قد يكونوا غير متساوين كالأب والأم في حالة عدم وجود الولد. أو قد يكون للذكر مثل حظ الأنثيين. المهم لا يعطى الذكر وتحرم الأنثى وهُما في درجة واحدة. فإما أن يعطوا جميعاً أو يحرموا جميعاً.
الملاحظة الثانية: كون هذا الحصر لا يحقق العدالة والإنصاف التي تقتضيها أحكام الشريعة. “فَإِن الشَّرِيعَة… عدل كلهَا، وَرَحْمَة كلهَا، ومصالح كلهَا، وَحِكْمَة كلهَا، فَكل مَسْأَلَة خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلَى ضدها، وَعَن الْمصلحَة إِلَى الْمفْسدَة، وَعَن الْحِكْمَة إِلَى الْعَبَث فليستْ من الشَّرِيعَة، وإنْ أُدخلتْ فِيهَا بالتأويل، فالشريعة عدل الله بَين عباده، وَرَحمته بَين خلقه، وظله فِي أرضه وحكمته الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى صدق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتم دلَالَة وَأصْدقهَا”، كما يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله. ومن الأمثلة على ذلك:
1/ توفى رجل وترك عشر بنات وابنا واحدا: فالمعمول به تقسيم التركة على 12 سهما، للابن سهمان من 12، وللبنات عشرة أسهم لكل واحدة منهن سهم، فنلاحظ أن نصيب الابن 1/6 من التركة ونصيب البنات 5/6 من التركة. هذا التقسيم سليم عملاً بقوله تعالى: ﴿للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾، إلا أن المفارقة تظهر إذا كان مكان الابن ابن عم مثلاً، فيكون التوزيع كالآتي: للبنات 2/3 والباقي لابن العم تعصيبا وهو 1/3، فنجد أنه عندما يكون ابناً للميت وهو الأقرب يأخذ السدس وعندما يكون ابن عم للميت وهو الأبعد يأخذ الثلث فيكون نصيب الأبعد أكثر من الأقرب.
فما المانع من جعل البنات عصبة بأنفسهن فيأخذن جميع المال: الثلثين فرضاً والباقي تعصيباً لأنهن أقرب للميت الذي هو أبوهن؟
2/ توفى رجل وترك ابناً واحداً حتى لو كان عمره شهراً واحداً أو يوماً واحداً ومعه عشر أخوات للميت. فإن المال كله للابن ولا شيء للأخوات أو الأعمام أو كائنا مَنْ كان مِنْ العصبات. لأنه ذكر.
الملاحظة الثالثة: كون مقتضيات التعصيب مع الغير مخالف لصريح القرآن الكريم، حيث جُعل الأخوات الشقيقات أو لأب مع البنات أو بنات الابن عصبة:
مثال توفى رجل وترك بنتاً واختاً. جعلوا للبنت النصف فرضاً وللأخت النصف الآخر تعصيباً.
ويستدل في هذا المقام بقوله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ وقالوا وجه الاستدلال بالآية قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، وهذا غير سليم لأنهم فسروا الولد بكونه ذكراً. على الرغم من أن كلمة “ولد”، سواء بصيغة الإفراد أو الجمع لم ترد في القرآن الكريم ولا في لسان العرب إلا ويقصد بها المولود وليس جنسه، وحتى في آيات الميراث-في سورة النساء- لم يقصد بالولد جنس الذكورة أو الأنوثة، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾. وقوله تعالى في حق الزوجين: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾. ومنها أيضا قوله تعالى في آية الرضاعة: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين﴾، فلا شك أن الإرضاع خاص بجميع الأولاد ذكورا كانوا أم إناثا. ومنها قوله تعالى في نفي المنفعة في الجزاء الأخروي بين الوالد والولد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان: 33).
وبناء على هذا المعنى خالف ابن عباس وعبد الله بن الزبير جمهور الصحابة الكرام في تفسير هذه الآية، وقالا بأن الميراث في هذه الصورة أن يكون المال كله للبنت ولا شيء للأخت، لأن الله تعالى قيّد ميراثها بعدم وجود الولد، والبنت ولد فهي تحجب الأخت عند وجودها، فقد نقل ابن جرير الطبري وغيره (انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 9/443) عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت إن ترك بنتا وأختا: إنه لا شيء للأخت لقوله: {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك}، قال: فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا، فلا شيء للأخت. وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة من أهل العلم، يقول القرطبي: “الجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ ، غير ابن عباس ؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات ؛ وإليه ذهب داود وطائفة ؛ وحجتهم ظاهر قول الله تعالى : ﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك﴾، ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد؛ قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها” (انظر الجامع لأحكام القرآن، ج 5/ 389).
الملاحظة الرابعة: إن عددا من التركات تبقى موقوفة ولا توزع إذا كان فيها عاصب مع الإناث، ولو كان من القرابة البعيدة (كابن العم أو ابن ابن العم مثلا)، إذا كان غائبا أو منقطعا في بلاد بعيدة لا يُتيسر الوصول إليه، فلا يمكن التصرف فيما ينوبه من ميراث لأنه “مستصحب للحياة” حسب تعبير المدونة في المادة 326: “المفقود مستصحب الحياة بالنسبة لماله، فلا يورث ولا يقسم بين ورثته، إلا بعد الحكم بتمويته، ومحتمل الحياة في حق نفسه وكذلك في حق غيره، فيوقف الحظ المشكوك فيه إلى أن يبت في أمره”. وتمويت المفقود موكول للسلطة التقديرية للقضاء، ولا يبت فيه بسهولة إلا إذا توفرت قرائن قوية تثبت فعلا أن المفقود هالك حتما حسب ما نصت عليه المادة 327: “يحكم بموت المفقود في حالة استثنائية يغلب عليه فيها الهلاك بعد مضي سنة من تاريخ اليأس من الوقوف على خبر حياته أو مماته.
أما في جميع الأحوال الأخرى، فيفوض أمد المدة التي يحكم بموت المفقود بعدها إلى المحكمة، وذلك كله بعد التحري والبحث عنه بما أمكن من الوسائل بواسطة الجهات المختصة بالبحث عن المفقودين”.
الملاحظة الخامسة: إن الفقهاء قديما وهم يجتهدون في مسائل التعصيب كانوا يؤسسون ذلك بناء على النص القرآني والحديثي، إلا أنهم إلى جانب ذلك كان يستحضرون معطى واقعيا ألا وهو عامل إنتاج الثروة في الأسرة والمجتمع، والذي كان حكرا على الذكور دون الإناث – إلا ما نذر – في عموم المجتمعات القديمة، مسلمة كانت أو غير مسلمة، ومن ثم فإن توزيعها واستحقاقها بعد الوفاة لن يخرج عن نفس الإطار.
وقد انتبه إلى هذا الأمر عدد من المفسرين القدامى والمحدثين في معرض تفسيرهم لقوله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيبا مفروضا} (النساء: آية 7)، فقد جاء في تفسير الرازي:” كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فبين تعالى أن الإرث غير مختص بالرجال، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء، فذكر في هذه الآية هذا القدر، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلا على التدريج؛ لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع، فإذا كان دَفْعَةً عَظُمَ وَقْعُهُ على القلب، وإذا كان على التدريج سَهُلَ، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا الـمُـجْمل أولا، ثم أردفه بالتفصيل” (انظر: مفاتيح الغيب، ج 9/194).
وأورد ابن عاشورا –في معرض تفسير للآية- تحريرا مفصلا عن توريث النساء والصغار وأصل التعصيب، نورده كاملا لنفاسته، حيث قال: “…ولا جرم أن من أهم شرائع الإسلام الميراث، فقد كانت العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصية لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة، وتجمعهم بهم صلات الحِلْف أو الاعتزاز والوُدِّ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصْرفُ لأبناء الميت الذكور، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنهم يصرفونه إلى عصبة من أخوة وأبناء عم، ولا تعطى بناته شيئا، أما الزوجات فكن موروثات لا وارثات.
وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوة إلا إذا كان الأبناء ذكورا، فلا ميراث للنساء لأنهم كانوا يقولون إنما يرث أموالنا من طاعن بالرمح، وضرب بالسيف. فإن لم تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة: الأب ثم الأخ ثم العم وهكذا، وكانوا يورثون بالتبني وهو أن يتخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبني والمتبنى جميع أحكام الأبوة.
ويورثون أيضا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخِلّة بينهما فيتعاقدا على أن دمهما واحد ويتوارثا، فلما جاء الإسلام لم يقع في مكة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذر تنفيذ ما يخالف أحكام سكانها، ثم لما هاجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكة صار التوريث بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر، وبالحلف، وبالمعاقدة، وبالأخوة التي آخاها الرسول – عليه الصلاة والسلام -بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} الآية من هاته السورة. وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظا في ذلك فأتم الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى أن حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونه” (التحرير والتنوير، ج 4/248 – 249.).
فالفقه القديم إذن، كان متأثرا بلا شك بواقعه الاجتماعي المتوارث، والذي لم يتغير كثيرا في علاقاته الاقتصادية والاجتماعية عن واقع مجتمع النبوة وما صاحبه من “عوائد المجتمع الجاهلي” التي عمل الإسلام على تهذيبها –تدريجيا-في بعض جوانبها “لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع، فإذا كان دفعة عظم وقعه على القلب، وإذا كان على التدريج سهل”، كما قال صاحب مفاتيح الغيب.
أما اليوم فإن المعطيات الواقعية تؤكد أن النساء يُساهمن بشكل كبير في إنتاج الثروة في مختلف بقاع العالم، وفي مختلف القطاعات الإنتاجية، ففي بلادنا –مثلا- وحسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط وباعتماد مدة العمل حسب الجنس التي يوفرها البحث الوطني حول التشغيل وحسب فروع الأنشطة الاقتصادية تساهم النساء في حدود 21% من الثروة الوطنية، وتمثل المرأة أكثر من ثلث القوى النشيطة بالبلاد، وتتواجد بكل المرافق العمومية بنسبة مهمة حيث تمثل 59 في المائة في قطاع التربية الوطنية، كما تشكل النساء 45,6 في المائة من الأطباء و41 في المائة من الصيادلة و 31,6 في المائة من مستخدمي الصحة، أما في قطاع العدل فتصل إلى 49,1 في المائة في الأطر الإدارية، وتمثل 34 في المائة في سلك القضاء و15 في المائة في سلك المحاماة، كما تمثل المرأة المغربية من مجموع الأطر العليا، نسبة 70 في المائة .
أما عدد النساء العاملات بالقطاع الخاص فيصل إلى حوالي مليون و500 ألف امرأة، بما فيهن العاملات بقطاعات صناعية غير مهيكلة فضلا عن العمل الموسمي المرتبط في غالب الأحيان بأنشطة موسمية فلاحية أو سياحية.
فهذه الوضعية الجديدة لإنتاج الثروة تجعل النساء يساهمن في الإنفاق اليومي للأسرة أو في تنمية ممتلكاتها العينية أو المادية بنسب مختلفة قد تصل إلى أزيد من 80 بالمائة في بعض الأسر التي يكون دخل الرجل -أخا كان أو أبا أو زوجا-محدودا، وفي الغالب لا يتم توثيق هذه المساهمة، إما خوفا أو حياء أو عن حسن نية فقط، ولذا فإن كل ثروة الأسرة تُنْسب تلقائيا للرجل بعد الوفاة، ويُطَالِب كل من يُدْلي له بصلة قرابة بنصيبه في الميراث بعد الوفاة، وإن كان بعيدا جدا، إذا لم يكن ثمة من يحجبه حجب إسقاط.
الملاحظة السادسة: إن تعليل أفضلية الذكور على الإناث ببعض العلل المادية في حالات من التعصيب، وذلك من قبيل: أن الذكور ملزمون بإعطاء الصداق، وأنهم ملزمون بالإنفاق أثناء قيام العلاقة الزوجية، وملزمون بالمتعة بعد انحلال ميثاق الزوجية بالطلاق، ويتكفلون باليتامى بعد الممات… وغيرها من العلل التي يظهر عند التأمل أنها كلها علل مردودة لا تصمد للمنطق والواقع الأسري اليوم؛ فالصداق لا يمنحه الرجل طيلة حياته الزوجية بل مرة واحدة فقط، وغالبا ما يكون يسيرا وزهيدا، بل إن بعض النساء اليوم ورغبة منهن في الزواج والعفاف يُعنّ خُطّابهن بالصداق إن قليلا أو كثيرا؛ ومعظم النساء العاملات يساهمن في الإنفاق مع آبائهن أو أزواجهن أو إخوانهن، وأكثر المطلقين اليوم يتملصون من أداء مستحقات الزوجة بما فيها المتعة التي شرعها الله تعالى بمقتضى قوله سبحانه: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}، وقوله عز وجل: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين}، يدل على ذلك كثيرة حالات الطلاق الاتفاقي حيث تؤكد ملفات المحاكم أن النساء يرغمن على التنازل عن مستحقاتهن بعد الطلاق، وكذا حالات التطليق للشقاق التي تكون بناء طلب الزوجة حيث استقر الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض منذ سنة 2010 على عدم تمكينها من متعتها إن كانت هي صاحبة الدعوى…
والخلاصة: إن هذه المعطيات الشرعية والواقعية والملاحظات الموضوعية والمنهجية تستدعي إذا ضرورة إخضاع بعض مسائل التعصيب الموروثة للاجتهاد بما يتلاءم ونوازل العصر ويحقق الإنصاف لجميع أفراد الأسرة والمجتمع سواء كانوا ذكورا أم إناثا.
Source : https://dinpresse.net/?p=19127