“التطرف” وإعادة هندسة الدعاية عبر الذكاء الاصطناعي
دين بريس ـ سعيد الزياني
تدل المؤشرات المتاحة اليوم على أن المشهد المتطرف يعيش لحظة إعادة تشكيل جذرية، لا تقف عند حدود توسيع الأدوات الرقمية أو تحديثها، وإنما تمتد إلى إعادة بناء الفكرة الدعائية التي قامت عليها التنظيمات المتطرفة منذ عقود.
إن التنظيمات المتطرفة، بمختلف مرجعياتها وأطيافها ـ من الجهادية العنيفة إلى بعض شبكات الإسلام السياسي ذات النزعة الراديكالية ـ وجدت في الذكاء الاصطناعي فضاء رحبا يعوض ما خسرته على الأرض، فانتقلت من أساليب الدعوة التقليدية وشبكات التجنيد المباشر إلى بنى رقمية تتكفل فيها الخوارزميات بصياغة الرسائل وتوزيعها وصناعة الصور والسرديات.
ومع دخول هذه التنظيمات إلى الفضاء الخوارزمي، تتبدل طبيعة الدعاية ذاتها، فالذكاء الاصطناعي أصبح معبَرا لبناء خطاب يتجدد ذاتيا، قادر على توليد نسخ لا تنتهي من الرسائل، ومتخلصا من الارتباط بصوت واحد أو أسلوب واحد.
وتصبح القدرة على إعادة تشكيل السرديات أهم من أي حضور ميداني، في عالم تحكمه الصورة السريعة، والإيقاع المتوتر للمنصات، وسيولة الهوية لدى جيل بأكمله، بل تتحول الخوارزمية تدريجيا إلى جزء أصيل من هندسة التطرف المعاصر.
وتزداد خطورة هذا التحول حين تتخلى الدعاية المتطرفة عن شكلها التقليدي، فما كان ينشر سابقا في شكل بيانات واضحة أو خطب مباشرة، أصبح اليوم يتخفى في مواد معاد تشكيلها: قصة قصيرة، صورة معدلة، مقطع صوتي، أو اقتباس فلسفي يحمل أفكارا مبطنة.
وتمر هذه “الأنماط الرمادية” بسهولة دون أن تثير الشبهات، وتتيح للتنظيمات بناء مسارات تأثير صامتة يصعب التقاطها في بداياتها، وتقديم خطاب أقل صدامية وأكثر قربا من حساسية المتلقي الحديث.
وتتراجع فعالية أدوات الرصد الأمني التقليدية، مع توسع هذا الأسلوب، فالتنظيمات المتطرفة لم تعد تعتمد على حسابات ثابتة أو قوالب لغوية محددة، وإنما تستند إلى محتوى يولد تلقائيا ويتغير في مفرداته وإيقاعه وبنيته مع كل نسخة جديدة، ما يضع المؤسسات المكلفة بالمواجهة أمام خصم بلا شكل واضح، يتحرك بسرعة تتجاوز قدرات المتابعة التقليدية.
لكن البعد التقني ليس سوى جزء من الصورة، فهذه التنظيمات تعيد تعريف نفسها داخل الفضاء الرقمي بوصفها شبكات إيديولوجية موزعة، غير مقيدة بحدود جغرافية أو قيادات مركزية صارمة.
إن الذكاء الاصطناعي يتيح لهذه التنظيمات تكوين دوائر جديدة من المتعاطفين من دون وسيط بشري مباشر، ومن دون الحاجة إلى بنية تنظيمية ضخمة، وهكذا تدخل مرحلة يمكن وصفها بأنها “الجيل الثالث من الدعاية المتطرفة”: دعاية يتراجع فيها الصوت البشري لصالح الخوارزمية، ويحل فيها الخطاب المولد آليا محل الداعية التقليدي، حيث تتولى النماذج الرقمية تحديد لغة الجمهور ومعجم اهتماماته.
ويطرح هذا المشهد سؤالا ملحا: كيف يمكن بناء منظومة مواجهة في زمن تنتج فيه الآلة الخطاب بسرعة تفوق قدرة المؤسسات على رصده؟
إن الفجوة بين سرعة التطور التقني وبطء التشريعات العالمية تتسع، والحديث عن تنظيم الذكاء الاصطناعي يظل محصورا غالبا في قضايا البيانات والشفافية، بعيدا عن التحديات المتعلقة باستغلاله في التحريض والتعبئة.
إضافة إلى أن الخطاب الديني والفكري التقليدي يجد نفسه أمام تحد جديد، فالسرديات التي تنتجها التنظيمات المتطرفة اليوم تبنى بلغة بصرية شديدة الجاذبية، وبأسلوب يستجيب لإيقاع المنصات، بعيدا عن الببنية الحجاجية الثابتة، لذلك لم أصبحت المواجهة تحتاج إلى دخول المجال ذاته: الرد بلغته، وأدواته، وبالإيقاع السريع نفسه الذي تتحرك به الدعاية المتطرفة.
في تقديرنا، بات استيعاب هذا التحول شرطا استراتيجيا لا يمكن تجاوزه، إذ أصبح التطرف يتبدل على نحو متواصل، منتجا أشكالا جديدة ومسارات انتشار غير مألوفة، ومن ثم يصبح تحليل آلياته وفهم مصادر قوته نقطة الانطلاق لأي سياسة جادة تستهدف كبح تمدده أو احتوائه بصورة فعالة.
التعليقات