د. محمد الزكري ـ عربي يقيم في ألمانيا
إزداد مؤخرا تداول مفردة “التطبيع” وتم إستخدامها إعلاميا بكثافة دون رسم حدود واضحة لمعالم المفردة.
مفردة “التطبيع” المتداولة حاليا هي استجلاب ناتج عن ترجمة مصطلح “Normalization” من اللغة الإنجليزية. وقبل معالجة معنى تطبيع المشتقة من جذر “طبع” عربيا سنقوم أولا بالبحث في معنى “Normalization”.
تشير مفردة “Normalization” (والمترجمة الى اللغة العربية ب “التطبيع”) إلى العمليات الاجتماعية التي يتم من خلالها اعتبار الأفكار والأفعال “طبيعية” وتصبح من المسلمات أو “طبيعية” في الحياة اليومية.
في النظرية الاجتماعية، يظهر مفهوم التطبيع في أعمال المفكر الفرنسي ميشال فوكو (ت. 1984) خاصة في كتابه ذائع الصيت ” المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن”.
في حسابات فوكو عالج فكرة التطبيع كواحدة من مجموعة من التكتيكات لممارسة أقصى قدر من السيطرة الاجتماعية مع الحد الأدنى من إنفاق القوة. يسميها فوكو “السلطة التأديبية”. وفي هذا السياق استخدم فوكو مصطلح التطبيع.
إن التطبيع ينطوي على بناء معيار مثالي للسلوك – على سبيل المثال، الطريقة المناسبة وبشكل مثالي معادات المفكرين والمدارس الفكرية التي تعاديهم السلطة وموالاة من تواليهم السلطة، وما إلى ذلك ، كما هو محدد بالتفصيل – ثم مكافأة الأفراد أو معاقبتهم بناءا على عملية التطبيع.
يذكر فوكو أن السلطة التأديبية ظهرت من خلال التطبيع على مدار القرن التاسع عشر، وأصبحت تُستخدم على نطاق واسع في الثكنات العسكرية والمستشفيات والمصحات والمدارس والمصانع والمكاتب وما إلى ذلك، وبالتالي أصبحت جانبًا حاسمًا في البنية الاجتماعية في المجتمعات الحديثة.
أيضا حول مفردة “Normalization” كتب كل من “آدم بير” و”جوشوا كنوب” من جامعة ييل الأمريكية، وهما متخصصان في دراسات “التطبيع”، مؤخرًا في صحيفة نيويورك تايمز: أن الناس يميلون إلى طمس ما هو “مرغوب فيه” وما هو متوسط في “حكم واحد غير متمايز للحياة الطبيعية”. وجادلوا بأنه ، مع استمرار قيام الساسة بأشياء كان من الممكن اعتبارها غريبة في السابق، فإن هذه الإجراءات لا يُنظر إليها على أنها نموذجية فحسب – بل تُعتبر طبيعية أيضًا. إن تصورنا عن الطبيعي لا يفصل بين الطبيعي والمثالي. لذلك ، كلما أصبحت تصرفات الساسة مألوفة أكثر ، أصبح أكثر قبولًا لأولئك الذين رفضوا أفعالهم في البداية.
وجدت الأبحاث التي أجريت في السنوات الأخيرة أنه يمكن تطبيع العديد من السلوكيات والمواقف الأخرى بسهولة واضحة – وليس فقط في السياسة. في كل مجال من مجالات حياتنا – سواء كان ذلك في العمل أو في المنزل – يمكن أن يكون للتطبيع تأثير معقد ولكنه خفي على معتقداتنا وقراراتنا.
بخصوص اللغة العربية نجد أن مفردة تطبع تُشْرح على أنها:
تَطَبَّعَ: (فعل
تطبَّعَ بـ يَتطبَّع ، تَطبُّعًا ، فهو مُتطبِّع ، والمفعول مُتطبَّع به
تَطَبَّعَ بِطِبَاعِ قَوْمِهِ : تَخَلَّقَ بِأَخْلاَقِهِمْ
تَطَبَّعَ الكَأْسُ بِالْمَاءِ : اِمْتَلأَ وَفَاضَ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ.
لو استجلبنا القضية الفلسطينية الإسرائلية الخليجية:
طبعا إنني أفترض أن التطبع مع إسرائيل يعني فتح الخليج لكل إسرائلي سواء أكان فلسطيني أم يهودي؟
فنعلم أن هناك فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائلية. فهل سيتطبع الخليجي أيضا مع الفلسطيني (المسلم أم المسيحي) من إسرائيل ؟ أم فقط مع اليهودي البولندي أو الأكراني أو البريطاني أو الروسي أو الأمريكي من إسرائيل؟
بأخلاق من سيتخلق الخليجي؟ فهويات كل شريحة من الشرائح الفلسطينية/اليهودية مختلفة؟ كما هل التطبع المطروح هو ذو إتجاه واحد أم ذو إتجاهين؟ هل سيتطبع الفلسطيني من إسرائيل أم اليهودي من إسرائيل بطباع الخليجين أيضا؟ ومن ثم مع طباع أي من الدول الخليجية سيتطبع؟
“التطبيع” هكذا هو مقدمة لعنوان أكبر إسمه الإندماج. فهل الغاية من التطبيع هو الإندماج؟ وهل الإندماج حرية إختيارية أم إكراهية قسرية كما شرح ميشال فوكو في كتابه ” المراقبة والمعاقبة – ولادة السجن”.
التعدد الثقافي الجسور الثقافية
في حين أن “التجاور الثقافي” جزء من أطروحة التعدد الثقافي. والتجاور الثقافي لا يطالب بالتطبيع ولا الإندماج. بل يطالب بترك حق الوجود والعيش لتلك الكينونة الثقافية.
فما هو المقصود بالتطبيع الخليجي؟ هل تم إستخدام مفردة خاطئة في حين أنهم يقصدون حق الحياة لكينونة ثقافية يهودية مجاورة لكينونياتنا الثقافية؟
بناء الجسور بين الثقافات المتجاورة هي مرحلة تلي مرحلة تقبل حق التعايش بين كينونات ثقافية في بيئة متعددة الثقافات. فهل المقصود من التطبيع بناء جسور ثقافية تسمح للمسلم الخليجي من العبور عبر هذا الجسور للتعرف على مكونات الكينونة الثقافية اليهودية كمتفرج دونما فرض عليه التخلق بأخلاق اليهود؟
إذا هذا ما هو المقصود؟ فقد تم إستخدام تعبير “التطبيع” خطأ. فالمقصود هو بناء جسور ثقافية وليس التطبيع.
من الواضح أن معالجة فكرة “التطبيع” تحتاج الى مراجعات كبيرة ثقافيا ودينيا وسياسا ومجتمعيا واقتصاديا.
الهرولة من الصفر الى عشرة في مواضيع ذات طابع عميق لا يصنع التطبيع بل يصنع تَصَنّع التطبيع وهناك فرق شاسع بينهما.
هذه حجرة فكرية رميتها في بحيرة دراسات التطبيع كان القصد منها أشكلة الموضوع ورفع رصيد الأسئلة الشاغرة في أذهاننا عسى أن يتمخض عنها جدل فكري متزن.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=10415