خديجة منصور ـ بتصرف ـ
ارتبط مفهوم التعدد ببابل بمفهومات البلبلة و سوء التفاهم و التشتت واللعنة الإلهية، هل التعدد الثقافي واللغوي هل هو بالفعل عقاب ولعنة ؟ وفي هذه الحال ماذا سيكون دور الترجمة؟
الذين رأوا في الأمر لعنة اعتبروا أن الترجمة سعي وراء التقريب فيما بين اللغات للمّ الشتات واسترجاع الوحدة ومقاومة الاختلاف والقضاء على التعدد أو على الأقل التخفيف من حدته، يزعم المترجم هنا إعادة بناء برج بابل، ومحاولة الارتقاء نحو نوع من اللغة الأصلية والكلام الأرقى الذي يكفي التحدث به لقول الحق.
يراود المترجم هنا حلم بكون اللغات جميعها، تشير إلى الواقع نفسه بأنحاء متباينة، وكأن ما به يحيل بفعل الترجمة إلى لغات عليا، لعلها الانسجام أو الوحدة المتكاملة بين كل تلك الأنحاء، أما الذين رأوا عكس هذا، فنظروا إلى بابل على أنها رحمة وحظ سعيد une chance، اعتبروا أن اختلاف اللغات وتعددها هو ما يبرر الاهتمام بالترجمة ويشرطه، وأن الترجمة لا حياة لها إلا في خضم هذا التعدد.
ومن هؤلاء على سبيل المثال “أومبرتو إكو umberto eco” الذي يرى بأن لغة أوربا التي لم ترفع قط إلى الآن شعار التوحيد اللغوي أن لغتها هي الترجمة، فترجمة من هذا المنظور هي لغة التعدد، إنها ترعى الاختلاف وترسي مفهوما مغايرا عن الوحدة، بعيدا عن أن يكون مجرد مقابل لتعدد، ومجرد استعادة لوحدة أصلية، لكي يغدو رعاية التعدد داخل الوحدة ذاتها. لن يهمنا هنا الموقف الأول، ليس لأنه موقف متداول يطرح الترجمة في سياق أخلاقي، فينظر إليها على أنها محاولة يائسة لاسترجاع وحدة أصلية، وإنما لكونه ينطلق من مفهوم “ميتافيزيقي” عن التعدد، فلا يميزه عن مفهوم الكثرة، ويجعله الضد المقابل للتوحيد.
قبل تعرضي لبسط الموقف الثاني إذن يبدو علينا أولا تحديد المفهوم التعددي ذاته. إن المد الفلسفي الذي طور هذا المفهوم هو “المد التجريبي” وخصوصا عند الفيلسوف “دافيد هيوم David Hume”، كما أوضح ذلك “جيل دلوز Gille Deleuze” في كتابه الأساس “التجريبية والذاتية”، ليس من المناسب هنا استعراض تحليلات “جيل دلوز Gille Deleuze”، يكفي أن نستخلص خلاصاته الأساسية. الكائنات في المنظور التجريبي علائق وبينيات لا تحيل على أطرافها المكونة، الوجود الفعلي هو للروابط، الفيلسوف الفرنسي “جون فال Jean Wahl يعبر عنه بقوله “الوجود للمعيات وليس للمهيات، العلاقة هي الأصل في الذات وليس في العكس العلائق هي ما يولد العناصر وليست هي من يتولد بين العناصر.
هناك أولوية انطولوجية للعلاقة والبينيات على الأطراف والحدود، لاشيء يتحقق بذاته، كل عنصر يتولد عما يتجاوزه، لا وجود لكل موحد، كل ما يوجد هو انفتاح اللانهائي وحركة التداخل، والتعدد التي لا تنقطع ها هنا يغدو الكائن ترابطا ظرفيا حركيا لا يخدع لأي مبدأ قار، وتصبح الوحدة مفهوما ثانويا، أعني يأتي ثانية مادام توليفا بين الأطراف. لن يعود الاختيار مطروحا بين الوحدة ونفيها وإنما بين وحدة مفتوحة على إمكانيات متعددة وأخرى محددة تحديدا أزليا. ستغدو الوحدة هنا جمع يقال على المفرد، إن على حد قول “دلوز” تركيب جغرافي وليس نشأة تاريخية. لن تعود المسألة الأساس إذن تحرير المتعدد وإنما توجيه الفكر نحو مفهوم متجدد للواحد كما لن يعود التعدد هو ما يقابل الوحدة وإنما ما يقابل الكثرة. الكثرة تقوم على مفهوم الوحدة الحسابي وتنحل إلى ” تعداد”، إنها كثرة من الوحدات، أما التعددية، فهي تروم خلخلة مفهوم الوحدة ذاته وتفكيك الثنائي وحدة التعدد. الكثرة خارجية أما التعددية فهي تقيم داخل الوحدة كي تجعل الاتصال ينطوي على الانفصال. والوحدة تشمل حركة وتضم أطرافا، ليست علاقة الوحدة بالتعدد كعلاقة الكل بالأجزاء أو المجموع بمكوناته وإنما كعلاقة الهوية بالاختلاف. ليست التعددية والحالة هذه هي كثرة الوحدات وإنما هي تعدد الاختلافات وبهذا تصير الوحدة من الحيوية بحيث تستطيع أن تستوعب التعدد ويصبح التعدد مفهوما باطنيا يصدع الوحدة ويضم أطرافها، ويغدو إنسان التعددية ليس ذاك الذي يتكلم عدة لغات وإنما ذلك الكائن السندبادي الذي يوجد بين لغات، بين ثقافات، معنى ذلك أننا لن نكون في عالم مشترك، لن نكون معا بلغة واحدة، التعدد اللغوي هو السبيل وحده إلى الوحدة المشتركة.
ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذا التعدد ليس تساكن بين عدة أشكال للأحادية اللغوية، كتب جيل دلوز Gille Deleuze ” “إنا علينا أن نكون مزدوجي اللغة حتى داخل لغتنا ذاتها،علينا أن نحوز لغة أقلية داخل لغتنا نفسها،علينا أن نستخدم لغتنا استخداما أقليا داخل لغتنا نفسها، علينا أنستخدم لغتنا نفسها استخداما أقليا، ليست التعددية اللغوية حيازة نظم عديدة يكون كل واحد منها متجانس في ذاته، بل هي أولا خط الهروب والتنويع الذي يمس كل نظام مانع إياه من التجانس، لا أن نتكلم “كارلاندي” أو”روماني” بلغة أخرى سوى لغتنا بل بالعكس أن نتكلم لغتنا نفسها كأجنبي. في هذا السياق يورد “دلوز” قولة بروست Proust المشهورة” إن المؤلفات الرائعة تبدو وكأنها كتبت بلغة أجنبية، هذا المفهوم عن التعددية اللغوية سرعان ما يطال الكائن ذاته ذلك أن تعدد اللغات كما أتبث “هومبولت Humboldt” ليس هو تعدد الأسماء والتغييرات والتعبيرات التي نعبر بيها عن شيء، إنما هو تعدد الأشياء نفسها، هناك من الأشياء بقدر ما تشكلها كل لغة على حدة، تعدد اللغات وتعدد الثقافات وتعدد المنظورات إلى العالم،تعدد أشياء العالم.
ما هو وضع الترجمة؟ وما هي وظيفتها و الحالة هذه؟
على غرار ما تذهب إليه “حنة أرنت Hanna Arendt ” من أن شرط قيام السياسي والتعدد، وعلى غرار ما تؤكده من عبث الموقف المنادي بلغة كونية تنشد التوحيد المفتعل لما يتخلل الشأن البشري من لبس وغموض وسوء التفاهم، بإمكاننا أن نجزم بأن شرط الترجمة هو عالم من الاختلافات، حينئذن ستكون الترجمة هي الاسم الذي يعطى لمحاولة تكريسها، ذلك أن الترجمة لا توحد اللغات والثقافات وإنما تربط فيما بينها وتجعلها تتثاقف، إنها إذن تدبير لتعدد، وهي ما يرعى عملية خلق الفوارق، ويغذي الوحدة وينعشها، ويغذي وحدة اللغة ووحدة النسخة الأصل.
على هذا النحو عندما تدخل اللغات في عمليات الترجمة، فإن تعددها ينتعش ولا تعود تقتصر على الاختلاف مع غيرها من اللغات، وإنما تسعى لمخالفة ذاتها. تهدف الترجمة إذن إلى أن تنتزعنا من عاداتنا، من عاداتنا اللغوية لابتداع لغة جميلة، كان “شيشرون Cicéron” يقول إن ترجمة الإغريق ترمي إلى تحويل اللغة اللاتينية وجعلها ترقى إلى البلاغة اليونانية، كأنه يتوخى أن يتكلم لغة الأصل في الترجمة، أن يتكلم النص المترجم إلى لغته في النص المنقول إليه. في هذا الإطار يرى “هايدغر Heideggre” أن الترجمة ليست تقنية آلية لنقل المعاني، بل هي مطية من خلالها يفسر النص الأصلي نفسه., إن النص الأصلي لا يتكلم في لغته فحسب بل هو ما يفتأ يتكلم عبر الترجمة بهذا المعنى، فإن الترجمات ضرورية للنص الأصلي، بل هي تنتمي إليه، إنها بعده الكوني.
يغدو النص كوني بحق أي يخاطب البشر في كل العصور، بقدر ما يكون مترجم في اللغات العديدة. الترجمات هي ما يشهد على البدايات المتكررة والمتعثرة للأصل، ذلك أن الأصل ما يفتأ يبدأ، إنه يعاود الصياغة وهو يبنى على التراخي كما يقول أشاعرتنا، فهو ليس نموذجا قارا يتهدده النص خوفا من المسخ، ولا اكتمالا سوف يلحقه النقصان، ولا بياضا سيعتريه السواد، وإنما هو انفتاح على إمكانيات غير متوقعة. الترجمات هي ما يفسح له هذه الإمكانات، ما يبعث فيه الحياة بكل ما فيها من سواد وبياض، حتى لا يبدوا وكما تريده الميتافيزيقا، وكأنه أصل طاهر مكتمل سبق كل البدايات، أصل يحمل في طياته معناه الأولي، أصل في غنى عن كل زيادة ونمو، أصل بعيد عن كل حذف وخدش وتسويد. بهذا المعنى، فإن النص بما هو كذلك، فإنه ما يفتأ يتكلم وهو يتكلم عدة لغات، إنه يتمتع بنوع من الحركية، ويفصح عن الرغبة في الخروج عن ذاته وهجرة موطنه وتغيير لغته. ربما هاته هي خاصية “الأعمال العظيمة les grand œuvres ” بما هي كذلك إنها النصوص التي تكتشف فيها اللغة عما تنطوي عليه من إمكانيات مستقبلية.
ونستطيع أن نقول إن الترجمة تستغل هاته الحركية، تستغل هذا التطلع، أو لنقول إنها توظفه وتستثمره. لا يرمي المترجم إذن إلى إلغاء الاختلاف وإنما إلى توظيفه ورعايته، من هذه الزاوية تبدو الترجمة أساسا لا كعملية لخلق القرابة وإنما كفعالية لتكريس الغرابة، هذا الانفتاح عن الغرابة لا يسهل المهمة على المترجم وإنما يضع على كاهله مسؤولية كل عمل إبداعي، بما أن المترجم ينطلق من أن كل لغة يمكن أن تغدو لغات جميعها، سيكون عليه أن يصبح من أجل تحقيق ذلك، مبدع في لغته أي أن يرعى اختلافها لا مع غيرها من اللغات فحسب وإنما مع ذاتها. وهكذا بدل المناخ الأخلاقي الذي يضعنا فيه المفهوم الميتافيزيقي عن التعدد، الذي يروم استعادة وحدة أصلية موهومة ليتحدث فيما بعد عن الخيانة والاستحالة، ها نحن نتبين أن تفكيك ذلك المفهوم يحثنا على إعادة قراءة أسطورة بابل كي نرى فيها دعوة إلى الترجمة، انطلاقا من تعدد وشتات وبلبلة سوء تفاهم، كي نتبين أهميتها وضرورتها، تكريسا للاختلاف، وإنعاشا للغة، وتدبيرا لتعدد ذلك التدبير الذي يسمى في سياق آخر بالديمقراطية.
عن مؤتمر الترجمة وإشكاليات المثاقفة،المنظم من طرف منتدى العلاقات العربية والدولية
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7875