عزالدّين عناية ـ أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا
ما من شكّ أنّ قضية “التراث والمعاصَرة” أو “التراث والحداثة”، أو ما يرد بمسمّيات رديفة أو شبيهة، هي من القضايا الدورية، المطروحة في الفكر العربي. والتطرّق إليها بالحديث قد يغري بموالاة هذا الطرف أو ذاك، والأمر كذلك مدعاة إلى حنين مفرط أو إلى توتّر مزعج.
ولذلك لا نتعاطى غالبا مع هذه الثنائية باعتدال ورويّة، ولا نتمالك أنفسنا جراء حاضر ضاغط وآتٍ داهم. ومن ثَمّ تُعَدّ تلك الثنائية -التراث والمعاصرة- من أكثر الثنائيات إحراجًا بين العرب، محافظين وحداثيين، على مدى القرن الفائت وإلى الحاضر الحالي، دون حسم واضح بشأنها.
ولو شئنا تعريفا جامعا مانعا لتلك البؤرة الإشكالية لتعدّدت بنا السّبل، مع أن التراث يظلّ “من المعلوم من المعارف والصنائع والمنجزات”.
ومع ذلك فالإشكال ليس في التعريفات، لأنها قد تتحول إلى نقيض ما نصبو إليه، وليس في رسم الحدود لهذا التراث، وليس في تعداد مجالاته وبيان حقوله، بل في المنهج السويّ الذي نعي به هذا التراث، ونقصد به تحديدا “التراث والوعي التاريخي”. حتى لا نتحول بِدورِنا إلى كائنات تراثية، غير واعية بما تستهلك وغير مدركة لما تريد.
ذلك أنّ الوعي التاريخي بالتراث هو عملية جدلية مركّبة، تتروّى في الماضي، وتتملّى في الراهن، وتتشوّف نحو المستقبل. وأن اختلال التوازن بين هذه العناصر الثلاثة، أو تغليب عنصر على غيره، من شأنه أن يُدخل ارتباكا على عملية الانتفاع بهذا الموروث. فالوعي التاريخي المفترض أن يرافق التراث، هو تلك العملية الذهنية التي تستلهم الماضي، وتتفهّم الحاضر، وتقود السير نحو المستقبل.
وهو تلك القدرة على الوعي بالأصول التي يتجذّر فيها واقعنا من أجل خلقِ فعل حضاري، لتضعنا العملية برمّتها أمام تعامل سويّ.
وبالتالي فإنّ التراث هو ذاكرة الكيان الجمعي الواعي بحضوره في التاريخ، وأنّ هذا الرصيد كلّما انفصل عن الجماعة وغدا منجزا مستقلا بذاته، أو بات استهلاكا عرضيا يخضع للمناسبات والمواعيد، كلّما غرق في عملية التشييء والمتْحَفَة، وهو أخطر ما يتهدّد التراث.
فلا غرو أنّ قضية التراث والوعي التاريخي تضعنا مباشرة أمام سؤال المنهج. والإشكال لدينا أننا كلّما تمعنّا ماضينا إلا وأُصبنا بالدهشة وغفلنا عن حاضرنا، ولربما تملّكنا ذلك الإحساس المرير أن “مستقبلنا قد بات وراءنا في ماضينا” لما يعوزنا من تعامل رصين ونظر سديد. فنحن مقدِّسون للماضي بإطناب أو مدنِّسون له بإجحاف.
والتراث على ثرائه، مثقَل بالمعقول واللامعقول على حد سواء، وقلّة من تستطيع فرز السلبي عن الإيجابي منه، إذ نحن لا نتعلّم منهج التعامل مع التراث وإنما تقليد إجلال التراث أو ازدراء التراث.
ومن صائب القول أن نجلّ تراثنا، وأن نعليَ من شأنه، وأن نفاخر به، ولكن ليس من الصواب أن يتحوّل المرء إلى كائن فاقد لقدراته العقلية والذهنية أمام التراث. ويذكرني تعامل كثيرين مع التراث بتعامل المأسور النفسي مع الماضي، فهو يستحضر مآسيه فيغضب ويستدعي مسرّاته فيطرب، دون وعي باللحظة التي هو فيها، فالزمن متجمّد لديه ومفتقد لأبعاده.
ففي الجوهر يعبّر التراث عن خبرة ومعرفة وثقافة، تراكمت عبر أجيال وعلى مدى عهود لدى جماعات بشرية، جمعت بينها عوامل تاريخية وربطتها أواصر اجتماعية، وشملتها أطر سياسية وحضارية جامعة. وهو خلاصة مراحل وتجارب مغرقة في القدم، وليس منجَزا أو تواضُعا على نواميس أو أعراف أو قواعد صيغت على عجل.
ولو تروّينا في الأمر نلحظ أنّ التراث بأشكاله وأنواعه هو مادة محايدة، لا يتحرّك من ذاته وإنما يحرّكه الناس، ولا ينطق من ذاته وإنما ينطق به الناس، ولذلك، الإشكال المطروح أمامنا وهو كيف نتعاطى مع هذه المادة؟ وكيف نعي استثمارها مجدّدا؟ وضمن أي شرط تاريخي، هل وفق المأسور نفسيا، أم المقهور حضاريا، أم الواعي بها تاريخيا؟
وأولى شروط التعامل الصائب مع التراث وهو أن نعي أنّنا نحن وتراثنا لسنا مركز العالم، فقد تزعزعت المركزيات واهتزّت، منذ اكتشاف قانون النسبية. وأقوى الحضارات وأعتاها، في الراهن، مدرِكة كيف تتعامل مع هذه المعادلة، لأنها تعرف كيف تتعامل مع ماضيها ومع ماضي العالم برويّة، ومن ثَمّ كيف ترتّب حاضرها وتؤمّن مستقبلها.
ترى الحضارة الغربية السائدة اليوم -في أبعادها المعرفية والعلمية- لم تَسُدْ لأنها أهملت الحضارات الأخرى أو حقّرت من شأنها، وإنما لأنها أدركت ما فيها من نفع وما فيها من إسهام. وأقسام الدراسات الشرقية والجنوبية، واللغات الميتة والحية، هي الأوفر حضورا في جامعاتها ومراكز أبحاثها.
والملاحظ أنّ بلِيّتين أصيب بهما التراث لدينا، التسييس المفرط والتقديس المجحف. والإشكال الذي أَلمّ بالعرب أثناء تعامل مفكّريهم وكتّابهم وباحثيهم مع التراث وهو الأدلجة والتوظيف.
وما تعدّدُ مناهج التعامل مع التراث: اليسارية، واليمينية، والليبرالية، والماركسية، والعلمانية، والإسلاموية، والسلفية، واليسارية الإسلامية، واليمينية الإسلامية، سوى دليل على حمّى التسييس، وقلّ منها من اعتمد المناهج العلمية والرؤى العقلية الصرفة في قراءة التراث.
بإيجاز بات التراث ساحة تصفية حسابات محمومة لتيارات سياسية، نقلت صراعاتها من الساحة السياسية إلى الساحة التراثية.
وكذلك من شروط التعامل الصائب مع التراث، وبحسب مختلف تفرّعاته، وهو الإلمام المعرفي والتاريخي والبنيوي بذلك القسم من التراث الذي يشتغل عليه الباحث والدارس. وهو العنصر الذي لم يُراعَ مع كثير من المشتغلين بالتراث من أكاديميين وهواة ومتطفّلين، وهو ما أوقعنا في فوضى التعامل مع التراث وفي الأحكام المغرضة والتعميم.
فكيف لمن ليست له دراية بالفلسفة، أن يتطرّق إلى التراث الفلسفي ويفصّل القول فيه؟ وكيف لمن ليست له دراية بالملل والنحل والفرق والأديان أن يتحدث عن تراث الأديان؟
وقسْ على ذلك مختلف المعارف والتفرعات التي يطفح بها تراثنا. انظر إلى الأعلام والشخصيات المعرفية في تراثنا: ابن هشام، الطبري، الغزالي، ابن رشد، ابن حزم، ابن تيمية، ابن منظور، ابن بطوطة وغيرهم كثير، كيف حولناهم إلى تابوهات، حتى تشكلت لدينا حقول معرفية مسيّجة بالرهبة.
وبالإضافة إلى ذلك، نتعامل مع ما أنجزه الغربيون بشأن تحقيق التراث وقراءته وإحيائه بحساسية مفرطة، وأحيانا بأحكام مغرضة. فتارة نهوّن من أعمال هؤلاء وأخرى نجلّ أعمالهم، والصواب أن نقيّم، ونراجع، ونتثبّت، وأن نصحّح الأمور إن لزم الأمر.
سمعت مرة جامعيا عربيا يصدح بالقول بانتهاء الاستشراق! مع أنه لا يقرأ بألسنة الغرب، ولم يتابع ما أنجزه مفكروه وباحثوه بخصوص حضارتنا حتى في ما تُرجم منه، وإن كان نزرًا قليلا مما بلغنا عن الغرب. كنت أستحي من هذه المكابَرة التي لا تليق بالباحث الجامعي.
فحين يهرع المرء إلى التراث كلّما داهمته مشكلة معرفية، ويعلّق آماله على الفوز بمبتغاه فيه، فهو إنسان واهم، لأن التراث ليس خزّان حلول، بل هو مخبر تجارب، ينبغي قراءتها بعين فاحصة وإلا فقَدَ الإنسان حسّه بالزمن وارتباطه بالواقع. فما معنى أن يتحوّل المرء إلى كائن تراثي ويغفل عن متطلبات واقعه؟ وما معنى أن يعطّل مداركه ويستنجد بماضيه؟
ينبغي أن نسأل دائما: إلى أي مدى يوفّق الاستنجاد بالماضي في رفع تحديات الحاضر وتأمين حاجات المستقبل؟ ومن ثَمّ يهدف الوعي التاريخي بالتراث إلى عقلنة الوعي بالتراث والخروج به من حالات التعامل السقيم.