
منتصر حمادة
هذه مقالة تهم ظاهرة “المؤدلجين سابقاً”، أيا كانت طبيعة المرجعية الإيديولوجية المعنية، وإن كنا سنتوقف عند نموذج تطبيقي، محسوب على مرجعية دينية، لكن الظاهرة تهم مجمل التيارات التي كانت في حقبة ما، تابعة أو تنتمي إلى هذه الإيديولوجية أو تلك، قبل الانفصال عنها، بصرف النظر هنا أيضاً عن طبيعة الانفصال، في شقيه النظري والتنظيمي، لكن صرف النظر هذا مؤقت، لأننا سوف نعود إليه في مضامين هذه الوقفة.
تتأسّس هذه المقالة على فرضية مفادها أن التحرر من النهل الإيديولوجي، أو زعم ذلك، لا يفيد أن المعني بالادعاء قد تحرر نهائياً من تأثير ذلك النهل، بصرف النظر عن الأفق النظري لهذه الإيديولوجية، وهي موزعة إجمالاً على اتجاهين اثنين على الخصوص: الإيديولوجيات المادية، باسم الحداثة أو المعاصرة أو العقلنة.. إلخ؛ والإيديولوجيات الدينية، ونذكر على سبيل المثال في حالة محور طنجة جاكارتا، السلفية الوهابية، الإخوان المسلمين، الداعشية السنية والشيعية.. إلخ.
سبق أن اشتغلنا على الموضوع منذ سنوات، واعتبرنا حينها، تأسيسا على الفرضية نفسها، أن هناك أربع تبعات على الأقل تصاحب أو تتلو مرحلة ما بعد الانفصال، وأحصينا منها تبعات نفسية وأخلاقية وروحية وعقلية.
وقد نشرنا مقالة تهم المضاعفات النفسية، ومما لاحظناه في سياق تفاعل بعض المعنيين بالظاهرة، الإقرار بتلك المضاعفات، وبالتالي ما يشبه تزكية تلك الفرضية، التي تبقى في حاجة إلى مزيد كد نظري وتجريبي، وإن اقتصرنا هنا كما سلف الذكر على النموذج الإيديولوجي في شقه الديني تحديداً، وليس في شقه المادي، لاعتبارات عدة، لعل أهمها، التباين الكبير في دحض خطاب الإيديولوجيات المادية والإيديولوجيات الدينية، على اعتبار أنه مع الإيديولوجية الدينية، وبحكم إصرار بعض أتباعها على تكريس ذلك التماهي بين الدين (الإسلام) والتديّن (الإيديولوجية المعنية)، من الصعب الذهاب بعيداً في ساحة الاعتراض، بمقتضى انغلاق الأفق النظر المسطر سلفاً بذلك “السياج الدغمائي المغلق” بتعبير أحد المفكرين. (يعلم الله عدد السلفيين مثلاً، الذين يعتقدون أن تدينهم السلفي الوهابي هو النسخة الحقيقية من الدين، وقِس على ذلك نسبة معينة من أتباع باقي أنماط التديّن الإسلامي)
ما يهمنا هنا في هذه المقالة، الإشارة إلى أمثلة جديدة تصب في تزكية الفرضية أعلاه، والحديث عن تبعات نشر مقالة سابقة في هذا المنبر بالذات، في سياق قراءة أو تأويل جلسة نقاشية نظمتها جماعة إسلامية هنا في المغرب حول تفاعل المفكرين المغاربة مع القضية الفلسطينية.
ويمكن للقراء الكرام العودة للمقالة، المتوفرة في الموقع تحت عنوان: “القضية الفلسطينية: تزييف الوعي تحت عباءة الإيديولوجيات الدينية”، وواضح أن ظاهرة تزييف الوعي لصيقة بالخطاب الإيديولوجي، أيا كانت مرجعيته النظرية، وهناك عدة أعمال بحثية اشتغلت على هذا المفهوم، بما في ذلك تزييف الوعي الذي يمارس باسم المرجعية الدينية في نسختها الإيديولوجية بالتحديد.
كانت المقالة أعلاه سبباً وراء صدور قراءة نقدية في منصة “فيسبوك”، وبما أن المقالة تهم أتباع الجماعة الإسلامية التي كانت نموذجاً تطبيقياً في المادة، وبالتالي أن تحظى القراءة النقدية بتأييد أو ترويج بعض أتباع تلك الجماعة، مسألة طبيعية، وليس هذا موضوع هذه الوقفة، لأنه أشرنا في مطلع المقال، إلى أن هذه الوقفة تهم أتباع ظاهرة تيار كان منتمياً في مرحلة سابقة إلى إيديولوجية معينة.
ما يهمنا هنا، أن التفاعل النقدي نفسه، حظي بتأييد بعض الأسماء التي كانت تنتمي إلى هذه الفئة بالذات، أي الأعضاء الذي كانوا من أتباع التنظيم، وانفصلت عنه، لكن تفاعلها مع بعض قضايا الساحة، نجده عند نسبة معينة، لا يختلف عن تفاعل أعضاء التنظيم نفسه، بالرغم من مقتضيات زعم الانفصال، بل قد نجد تأثير ذلك النهل حتى في التفاعل مع تنظيميات إيديولوجية تتقاطع مع إيديولوجية التنظيم نفسه، بالرغم من الانفصال التي تحقق من قبل عن التنظيم.
تحيلنا هذه الإشارة على طبيعة الانفصال المعني، وقد سبق أن نشرنا دراسة في الموضوع توقفت عند بعض أنماط الانفصال المعني، بين الحديث عن انفصال تنظيمي لا يكون مصاحباً بانفصال إيديولوجي، ونزعم أن هذا التيار هو السائد مقارنة مع الباقي؛ أو الحديث عن انفصال تنظيمي وإيديولوجي في آن، ونزعم أن هذا تيار أقلوي، ضمن أنماط أخرى.
الشاهد هنا ــ لذلك أكدنا سلفاً أن المقالة تهم الأعضاء السابقين في أي تنظيم إيديولوجي ــ يفيد بأن أخذ مسافة من التنظيم المعني، يقتضي من المعني بهذه الخطوة أو المبادرة، أن يأخذ بعين الاعتبار بأن هناك تبعات عدة تصاحب مرحلة أخذ مسافة: أن تتحرّر تنظيمياً من مرجعية يسارية (واليسار أنماط وتيارات، بصرف النظر عن الفوارق بينها)، لا يفيد بالضرورة، أنك تحررت كلياً من تأثير النهل الإيديولوجي اليساري، وهذه جزئية نعتقد أنها تكاد تكون في مقام اللامفكر فيه، بتعبير مشيل فوكو، عند هؤلاء، هذا إن لم تكن كذلك بالفعل.
صحيح أن الناس أحرار في الانتماء الإيديولوجي، بل إن الناس أحرار في الاعتقاد فالأحرى في ذلك النهل، لكن التحرر من تأثير هذا الأخير، لا يتم بين ليلة وضحاها، وما أكثر الأمثلة الميدانية التي تزكي هذه الإشارة/ الفرضية.
والله أعلم.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23555