صلاح الدين المراكشي
تثار أحيانًا بعض التساؤلات والشكوك لدى من لم ينشأ في أحضان العلم الشرعي ولم يعتد على مجالس العلماء، بشأن مشروعية وجود الأئمة المرشدين داخل السجون الأوروبية ؟! ويرى هؤلاء، بناءً على فهم محدود، أن هذا الأمر قد يتناقض مع تعاليم الإسلام… ! غير أن هذا الطرح للأسف يفتقد إلى النظر العميق في مقاصد الإسلام السمحة وكيفية تطبيقها في واقع الحياة المعاصرة، مما يستلزم تقديم توضيح شامل ودقيق لهذه المسألة.
إن وجود السادة الأئمة المرشدين داخل السجون الأوروبية لا يُعد موضع خلاف أو جدل، بل هو انسجام تام مع روح مقاصد الإسلام التي تدعو إلى إصلاح الإنسان وتوجيهه نحو طريق الخير، وإبعاده عن مسالك الانحراف والضلال.
فالإسلام في جوهره رسالة رحمة للناس كافة، غير أن بعض الفهوم القاصرة تُسيء إليه حين تُلبسه ثوب التشدد والغيرة في غير موضعها، وتظن أن التضييق على الناس من الدين، بينما هي في الواقع تناقض سماحته وجماله واتزانه.
لقد أبرز الإسلام مكانة الإصلاح الروحي والتوجيه الأخلاقي في جميع الأحوال والبيئات، بما في ذلك بيئات السجون. ومن هذا المنطلق، أجد من الضروري تقديم رؤية شرعية موجزة وواضحة لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي قد تُثار حول هذه القضية.
– التأصيل الشرعي لعمل الأئمة المرشدين داخل السجون الأوروبية :
يُقصد بعمل الأئمة والمرشدين الدينيين داخل السجون الأوروبية أداءُ مهمة التوجيه الديني والتربوي لفائدة السجناء المسلمين، وذلك ضمن إطار قانوني منظم يحدد أسس هذه المهمة وضوابطها داخل المؤسسات السجنية الإصلاحية.
تُعد هذه المسألة من القضايا المستجدة في واقعنا المعاصر، والتي لم يكن لها مثيل بهذا الشكل في العصور الأولى، ويمكن تصنيفها شرعاً ضمن عدة أبواب فقهية متعلقة بالتوجيه والإصلاح والرعاية الدينية.
أولا : من باب نصح المسلم لأخيه المسلم
كقوله صلى الله عليه وسلم “الدين النصيحة” قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم” رواه مسلم برقم : 55 وغيره.
فالحديث هنا يؤكد أن النصيحة أصل من أصول الدين. والسجين أخ مسلم في ظرف خاص، وهو أحوج ما يكون إلى من ينصحه ويوجهه دون إدانة أوتجريح. والنصح في هذا السياق، يكون بأدب ورحمة، يهدف رده إلى الطريق السوي.
ثانيا : من باب المساهمة في الإصلاح والتوجيه، كوظائف الأنبياء والمرسلين عبر التاريخ
● موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام حينما ذهبا إلى فرعون، أمرهما الله بالقول اللين معه حال النصح والتوجيه؛ فقال تعالى لهما: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى} [طه: 44].
● عيسى عليه الصلاة والسلام قال لقومه، وهو يعدد لهم وظائفه: {وَجَعَلنيِ مُباركاً أيْنمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31].
● ومحمد عليه الصلاة والسلام يعد امتدادا لسلسة الأنبياء والمرسلين ممن ذكرنا -كأمثلة – ومن كان قبلهم – أيضا- من اخوانهم الأنبياء والمرسلين، كلهم كانوا في مهمة الإصلاح والتوجيه، قال تعالى عنهم: {أُولَئِكَ الذِّينَ هَدَى الله فبهداهم اقتده } [الأنعام : 90].
إذن؛ فالإمام أو المرشد الديني، أينما كانا، فهما يسهمان معا في عملية الإصلاح والتوجيه، بأسلوب يرتكز على المودة، والرحمة، وتزكية النفس، مقتدين في ذلك بسيرة الأنبياء والمرسلين.
ثالثا: من باب التعاون على البر والتقوى
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَىالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة : 90]، والتعاون على البر والتقوى هنا؛ يعبر عن رسالة أمل ومحبة؛ تعين النزيل على الانخراط الإيجابي داخل المجتمع الأوروبي بطريقة تُحصنه من العودة إلى الجريمة التي تدخل في حيز الإثم والعدوان.
رابعا: من باب الاهتمام بفقه الأقليات المسلمة
وهذا فيه دعوة للإمام أو المرشد الديني المسلم للاهتمام بأمر أخيه المسلم ومعالجة إشكالاته أينما حل وارتحل –
ولا سيما في محيط السجن – من خلال استقراء ظروفه المعيشية، وتقديم إجابات دينية مبنية عليها. فيكون أمينا على ثوابته الدينية، وفي نفس الوقت يصوغ له أحكاما مرنة تتناسب مع واقعه السجني، وسياقها الزمني.
وفي هذا الإطار، فإن تجاهل تغير الزمان والمكان والظروف، والسياقات والتشبث الحرفي بظواهر النصوص دون النظر في مقاصدها ومآلاتها، وما يترتب على تطبيقها من مصالح ومفاسد، ودون إعمال فقه الموازنة؛ ليعد من الجناية على الدين، لا يليق بمن يحمل رسالته!
وبهذا؛ نكون قد أرسينا رؤية شرعية مختصرة في كيفية النظر إلى هذه القضية، بعيدا عن التشويش أو المغالطات التي قد يتم ترويجها في بعض الأوساط، سواء بدافع الجهل بمقاصد الدين، أو بدافع التحفظ المبالغ فيه!
والله أعلى وأعلم