سعيد الكحل
تتسارع الأحداث التي لم يكن حزب العدالة والتنمية يستقبلها ولا حتى يفترض حدوثها في ظل رئاسته للحكومة مهما طالت وتعددت ولاياته الحكومية . فالحزب درج على الخوض في قضايا يعتبرها محسومة بالنسبة إليه في أدبياته ويوهم نفسه أنها موضوع إجماع الشعب المغربي.
لهذا تفرّغ لاتخاذ قرارات سماها رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران ، “قاسية” مثل تحرير أسعار المحروقات وتمديد سن التقاعد. كانت قيادة البيجيدي، وقد تملّكها الغرور بقوة الحزب السياسية ، تتعامل مع الشعب ومع الدولة وكأنهما إرث ورثه عما سمي بالربيع العربي ؛ أي يملك كل المشروعية لاتخاذ القرارات مهما كانت انعكاساتها “قاسية” على الشعب. فقد ساهمت عوامل عديدة في إصابة البيجيدي بالغرور السياسي حتى صار يتصرف كدولة داخل دولة تكاد لا تسري عليه القوانين الجاري بها العمل ، ومنها أنه كلما رغب في أمر هدد الدولة من أجله.
هكذا هدد من أجل دسترة إسلامية الدولة سنة 2011 ، فكان له ما أراد ، ثم هدد في حالة إقرار الدستور بحرية الاعتقاد فتم سحب الصيغة من المسودة. إلا أن تهديده الأكبر كان خلال الحملة الانتخابية التي تلت ولايته الحكومية الأولى إذا لم يتصدر النتائج. تهديدات لم تزد الحزب إلا غرورا وعجرفة وتنطعا جعله يقرر وحده مَنْ مِن الأحزاب يكون حليفه في الحكومة ومن لا يكون دون حتى الاتفاق أو الاختلاف حول البرنامج الحكومي (رفض مشاركة حزبي الاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة ). غرور لم يستفق منه إلا بعد “البلوكاج” الذي أزاح بنكيران عن رئاسة الحكومة ثم رئاسة الحزب.
حينها أدركت قيادة البيجيدي أن الفوز بصدارة الانتخابات لا يعني احتكار القرار السياسي والحكومي وتحويل بقية الأحزاب إلى “كومبارس” تؤثث المشهد السياسي. طبعا لم يرتدع الحزب كما لم يستخلص الدرس. حقا أنه انحنى للعاصفة حتى لا تجتثه من الجذور أو تكسر عماده ، لكن لم يتخل عن عجرفته فظل يتربص بالدولة عبر إستراتيجية محددة الأهداف والتكتيكات الغاية منها “التمكين” والتغلغل في مفاصلها حتى وإن اقتضى الأمر التخلي عن المبادئ والقناعات الإيديولوجية ؛ إلا أنه تخل مؤقت سرعان ما يعود الحزب إلى المبادئ والعقائد التي تأسس عليها .
هكذا سيختار الحزب مُكرها التوقيع على الإعلان المشترك بين المغرب وأمريكا وإسرائيل الذي يؤرخ لعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ؛ علما أن البيجيدي ظل يعبر عن رفضه المطلق لأية علاقة مع إسرائيل ، لكنه فجأة وجد أمينه العام يوقع على الإعلان المشترك. كان البيجيدي يراهن، بمهادنته الدولة ، على تحقيق مكاسب أكثر تسمح له بمزيد من التغلغل في الدولة والمجتمع ، ومن ثم تقوية فرص التمكن.
مرت مسألة التوقيع بأقل تأثير على وحدة الحزب ، حيث اجتهد قادته في تبرير ما حصل وتحميل الدولة قرار استئناف العلاقات مع إسرائيل . طبعا لم يكن الحزب يرغب في المواجهة مع الدولة خصوصا وأن الانتخابات قد اقترب موعدها . وأي مواجهة مع الدولة حول أية قضية على صلة مباشرة بالوحدة الترابية للمغرب تحكم على الحزب بالفشل السياسي الذريع بحكم الإجماع الرسمي والشعبي حول مغربية الصحراء. فقيادة الحزب تستحضر حجم الخسائر إن هي عاكست المصالح العليا للوطن.
لهذا اكتفت ببلاغ الرفض لاستئناف العلاقة مع إسرائيل دون أي تهديد مباشر للدولة ، سواء يمس بالسير العادي للمؤسسات الدستورية ، كأن يقرر الحزب الانسحاب من الحكومة، أو تعطيل البرلمان بالانسحاب منه ، ومن ثم الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها ، أو بخوض سلسلة من الاحتجاجات والإضرابات في القطاعات الحيوية.
لم تكد تمر قضية التوقيع على البيان المشترك حتى وجد الحزب نفسه فجأة أمام قضية أكبر لن يستطيع معها إيجاد أي تبرير لاتخاذ موقف غير منسجم مع المبادئ المؤسسة. ويتعلق الأمر بقرار تقنين استعمال وتصنيع نبتة القنب الهندي (الكيف) ، أي رفع التجريم عن هذه الاستعمالات. حرج كبير وجدت قيادة الحزب نفسها تواجهه خصوصا وأنها راهنت على الاستقواء بالحكم الشرعي الذي يستنبطه فقهاء الحزب بما يخدم مصالحه الضيقة. ذلك أن الحزب دعا إلى إحالة أمر التقنين على المجلس العلمي الأعلى للإفتاء فيه. محاولة كهذه لو نجحت لألغت الطابع المدني للدولة المغربية ولحولتها إلى دولة دينية صرفة يوجه سياساتها العمومية فقهاء الدين.
كادت هذه الدعوة/البدعة أن تُوجّه ضربة قوية وخطيرة للمؤسسات الدستورية (البرلمان ، الحكومة ..) لولا أن الحكومة صادقت على مشروع قانون تقنين استعمال نبتة الكيف بالرغم من تهديدات بنكيران بتجميد عضويته في الحزب أو بالانسحاب منه في حالة صوت برلمانيو البيجيدي على المشروع حين يُعرض على البرلمان. ظل تهديد بنكران داخليا، أي يخص الحياة الداخلية للبيجيدي الذي وجد نفسه أسيرا لطروحاته ومعاييره الأخلاقية والدينية (حلال حرام ).
فما يهم الحزب داخليا لا يعني الدولة والشعب معا. لكن أن يتجرأ زعماء الحزب على تهديد الدولة ، وخَلْفها النظام والشعب ، بمصير دول “الربيع العربي” فأمر بالغ الخطورة. والتهديد لم يأت من عضو عادي بالحزب ، بل جاء على لسان نبيل الشيخي رئيس فريق الحزب بالغرفة الثانية خلال أشغال لجنة الداخلية بالمجلس مساء الثلاثاء 9 مارس 2021 أثناء مناقشة القاسم الانتخابي، بعبارات تهديد واضحة بكون حزبه إذا ساعد الدولة في تجاوز محنة الربيع العربي وخاصة احتجاجات 20 فبراير بسلام، فهذا لا يعني أن الشيء نفسه سيقع الآن مع معركة القاسم الانتخابي. هذه العبارة تفيد أمرين اثنين:
أولهما: أن الحزب ينتظر مزيدا من المكاسب والمناصب مكافأة له على خدماته والأدوار التي قام بها ، وعلى رأسها “حماية” الدولة من طوفان الربيع العربي. وهذا ابتزاز سخيف يثبت افتقار الحزب إلى ثقافة سياسية رصينة.
ثانيهما: التهديد الصريح للدولة بكون البيجيدي لا يزال يملك أوراقا مهمة من شأنها تحديد مصير الدولة/النظام ، وفي مقدمتها بعث حركة 20 فبراير من مرقدها. وهذه رسالة مباشرة إلى الدولة مضمونها لا تدفعوا البيجيدي إلى التحالف مع جماعة العدل والإحسان لإخراج نشطاء حركة 20 فبراير إلى الشارع . فالبيجيدي يدرك أن جماعة العدل والإحسان تشكل قاعدة 20 فبراير ، وأنه في حالة إحيائها ، لن يسلم من خطرها أحد.
هكذا يثبت البيجيدي أنه حزب انتهازي لا تهمه مصلحة الشعب والوطن بقدر ما تحركه المصالح الخاصة لأعضائه. لقد عطّل الدستور وخرقه منذ تحمله مسؤولية رئاسة الحكومة، كما اتخذ قرارات أشد ظلما وخطرا على الشعب دون أن ينتفض أعضاؤه دفاعا عن الدستور وتنبيها لمخاطر خرقه.
لكن ما أن تم المساس بمصالح أعضائه ومكاسبهم المادية حتى أقاموا الدنيا ولم يقعدوها متخذين من الدستور “قميص عثمان”. فعلى الدولة وبقية الأحزاب ألا تستهين بتهديدات البيجيدي، ولتستخلص الدروس مما تفعله حركة النهضة في تونس وما تمارسه من ضغوط على الرئيس قيس سعيد وعلى الدولة والأحزاب.
لتعلم الدولة والأحزاب أن البيجيدي كبقية أحزاب الإسلام السياسي إذا صارت لها القوة البشرية الكافية للانقلاب على النظام أو الزحف على الدولة فإنها لن تتردد لحظة في الانقضاض على السلطة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13863