صدر مؤخرا بيان وقعه عدد من “الدعاة والباحثين والمفكرين”، في سياق إقليمي شديد التعقيد تتداخل فيه المعارك السياسية والعسكرية والاقتصادية، يحرم فيه ما اعتبر سماحا مغربيا لسفن أمريكية بالرسو في ميناء طنجة، بزعم أنها تحمل عتادا عسكريا موجها للكيان الإسرائيلي، وفي وقت يعمل فيه المغرب على تثبيت توازناته الاستراتيجية بدقة وسط ظرفية دولية حساسة جدا.
ويصور البيان الواقعة بأنها “خيانة لله ورسوله وموالاة لأعداء الأمة ومساهمة في قتل أهل غزة”، في تأويل عقائدي يقوم على مبدأ “الولاء والبراء”، دون اعتبار لفقه المصلحة، أو تعقيدات الواقع الدولي، والأهم دون مراعاة للسياق الذي تصدر فيه الفتوى، وهو عنصر جوهري في “الاجتهاد الرشيد”، إذ لا يمكن فصل الحكم الشرعي عن ظرفه الزماني والمكاني والسياسي، خاصة حين يتعلق الأمر بعلاقات دول ومصالح أمم.
لا شك أن تعاطف الأمة مع فلسطين مشروعة، بل واجبة، كما لا خلاف في تجريم الدعم العسكري للمحتلين كيفما كانوا، لكن المعضلة ليست في الغاية، بل في الأداة والمقاربة، فالبيان المذكور يعكس، للأسف، غيابا مركبا لثلاثة أبعاد ضرورية في مثل هذه النوازل: الفقه المقاصدي، والتحليل السياسي، والفهم الاستراتيجي لطبيعة العلاقات الدولية، وهو غياب يجعل الخطاب الديني ينقلب من بوصلة “شرعية” و”أخلاقية” إلى أداة ضغط غير محسوبة، قد تضر أكثر مما تنفع.
وأول الإشكالات هو التعميم المخل، إذ إن الحديث عن “السفن الأمريكية” كمصدر للحرمة الشرعية يغفل حقيقة أن هذه السفن، بحكم موقع أمريكا العالمي، تجوب البحار وترسو في موانئ الحلفاء والأعداء على السواء، بل كيف يعقل أن يوصم بلد كالمغرب بـ”الخيانة” لمجرد رسو سفينة حليفة في مينائه، بينما دولا إسلامية أخرى (عربية واسلامية)، تستضيف قواعد عسكرية أمريكية دائمة فوق أراضيها؟ أين التوازن إذن؟ بل أين النزاهة في التقدير؟
ومن منظور استراتيجي، لا يتحرك المغرب بمنأى عن محيطه الدولي، بل يشتغل ضمن شبكة معقدة من التحالفات والمصالح المتشابكة، تبنى انطلاقا من أولويات سيادية واضحة، في مقدمتها قضية الصحراء المغربية، والولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها قوة عظمى، لم تكن يوما طرفا عابرا في هذا الملف، بل شريكا فاعلا ومساندا صريحا لمغربية الصحراء في مختلف المحافل الدولية، وبشكل أوضح في العهد “الترامبي”.
فهل من الرشد السياسي والوعي الاستراتيجي أن يوجه خطاب عدائي إلى هذا الحليف الرئيسي، لمجرد مزاعم لم يتحقق من صحتها بشأن سفينة عابرة؟ ثم، أي منطق يسمح بإقحام المغرب في صراع مباشر مع دولة تعد أحد أعمدة توازنه الدبلوماسي والعسكري، لمجرد رسو سفينة في ممر دولي مفتوح؟ وهل من الواقعية – قانونا وفعليا – أن تمنع دولة ذات سيادة كالمغرب رسو سفن أمريكية في موانئها، وهي تربطها معها اتفاقيات تعاون متعددة الأبعاد؟
ألا يخشى أن يكون مثل هذا “البيان” أقرب إلى الغفلة عن الحكمة الشرعية والرؤية السياسية، بما يجعله يجافي المصلحة، ويزج بالبلاد في عزلة لا تخدمها ولا تخدم قضايا الأمة، ويكون ضرره أكثر من نفعه؟
والتفريق بين السفن الأمريكية والإسرائيلية ضروري ومفصلي، فلو تعلق الأمر بسفينة إسرائيلية، لكان الاستنكار منطقيا ومتناغما مع الموقف الشعبي العام، أما مساواة ذلك بسفينة أمريكية فيعد خلطا للأوراق، لا يبنى على تقدير سياسي أو استراتيجي، بل يعكس مزاجا متسرعا يتجاهل طبيعة العلاقات الدولية وتشابك المصالح بين الدول.
والأشد إشكالا أن “البيان” يتعامل مع الدولة المغربية كما لو كانت كيانا غير مسلم لا يراعي قضايا الأمة، انطلاقا من تأويل ضيق لمفهوم “الولاء والبراء”، متجاهلا واقعها السيادي، وإن كان رسو سفينة أمريكية مدعاة للتحريم، فلماذا لم يحرم “أصحاب البيان” المناورات العسكرية المشتركة أو صفقات التسليح مع أمريكا؟ أليس ذلك أولى بالاعتراض؟ أوليست المناورات العسكرية، وفق منطق البيان، إعانة للظالم على ظلمه؟
هذا دون الحديث عن البيئة الفكرية الحاضنة للبيان، فلا تخفى على المتتبعين، فغالبية الموقعين ينتمون لتيارات ذات مرجعية إسلامية سياسية (العدل والإحسان، التوحيد والإصلاح، وبعض المستقلين المحسوبين على اليسار الإسلامي)، ما يجعل البيان متأثرا بمواقف إيديولوجية مسبقة من الدولة وخياراتها الاستراتيجية، أكثر من كونه قراءة شرعية صرفة، وهذا أمر لا يعيبه من حيث المبدأ، لكنه يفرض التعامل معه كبيان سياسي بلبوس شرعي، لا كموقف ديني جامع..
ثم إن مصلحة فلسطين لا تكون بإضعاف المغرب، ولا بتقليص هامشه الدولي، ولا بخلق معارك جانبية مع الحلفاء، بل بدعمه في بناء موقف دولي قوي ومستقل، يمكنه من التأثير الحقيقي، ومن يتوهم أن المغرب قادر على أن يعادي واشنطن في الظرفية الراهنة دون ثمن استراتيجي فادح، فذلك تعبير عن تقدير غير واقعي للظرفية، يخشى أن يؤدي إلى نتائج عكسية مهما حسنت النوايا..
إن الشرع، كما قال الإمام الشاطبي، “مبناه على تحقيق المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها”، فكيف يسوغ إذن إصدار بيان باسم الشريعة لا يراعي إلا مفسدة مفترضة (رسو سفينة)، ويغفل مصالح متحققة ، ومفاسد أعظم في حال التمرد على التوازنات الدولية (الدخول في صراع مدمر مع دول قوية)؟
إننا اليوم أمام واجب مركب: الانتصار لغزة نعم، ولكن دون تفريط في وزن المغرب، ودوره (ولا اشارة واحدة في البيان الى مجهودات المغرب في دعم فلسطين)، ومصالحه الاستراتيجية، فالدول لا تدار بالعاطفة، ولا بالإجماع الانفعالي، بل بالتقدير العميق، والقراءة المركبة، والفقه العارف بالواقع والواعي بالمآل.
فقط يمكن التذكير بأنه سبق للملك محمد السادس أن أكد في خطاب رسمي: “المغرب يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربيتها لن يكون أبدا، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة”..
فليكن ميزان الحكم إذا ما يجمع بين الوفاء لفلسطين، والحرص على سيادة المغرب ومصالحه الاستراتيجية، لا ما يفرق بينهما باسم الانفعال أو التأويل الضيق للنصوص..
والله من وراء القصد.