جمعه: د. يوسف الحزيمري
الحديث عن البركة طويل الذيل، كتب فيه الكثير في كتب التفسير والحديث واللغة والعقيدة، وهي خلق من مخلوقات الله عز وجل، وجند من جنده، إذا حلت في الشيء باركته بالنماء والزيادة والثبات والشرف والعلو، وقد سمى الله عز وجل القرآن الكريم “كتابًا مباركًا” في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَك لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [ص: 29].
قال الحسن: “هو المبارك لمن أخذه واتّبعه وعمل به، فهو مبارك له، وسمي هذا القرآن مباركًا؛ لما يبارك فيه لمن اتبعه، فهو مبارك لمتبعه والعامل به”.
ومن شرفه أنه أنزله في ليلة مباركة، قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَة مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3]؛ أي: “إنا من مقام عظيم جُدنا {أنزلناه} أي ابتدأنا إنزاله إليك تأييدًا لأمرك وتعظيمًا لشأنك في ليلة مباركة كثيرة الخير والبركة، هي ليلة القدر أو البراءة.
وإنما أنزلناه مشتملًا على الأحكام والمواعظ والعبر والأمثال والقصص والتواريخ والرموز والإشارات المنبهة على المعارف والحقائق، {إنا كنا منذرين} مخوفين بإنزال ما فيه من الأوامر والنواهي والوعيدات الهائلة على من انصرف عن جادة العدالة الإلهية، وانحرف عن الصراط المستقيم.
وإنما أنزلناه إليك في ليلتك هذه إذ فيها يُفرَق ويُميز ويُفصل عندك يا أكمل الرسل بعدما تمكنت في مقر العز والتمكين كل أمر حكيم، أي محكم صادر عن محض الحكمة المتقنة الإلهية”.
ووصف نفسه عز وجل بقوله: {تبارك} في عدة مواضع من كتابه، قال تعالى: {تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وتبارك الله تعالى، أي: ثبت الخير عنده (فمعادن الخير عنده) وفي خزائنه، وقال قوم: تبارك: علا.
قال أهل التأويل: “تبارك” من التفاعل، وهو من “تعالى”؛ لأن البركة هي اسم كل رفعة وفضيلة وشرف، فكان تأويله: تعالى من التعالي والارتفاع.
وقال أهل الأدب: “تبارك” هو من البركة، والبركة هي: اسم كل فضل وبر وخير، أي: به نيل كل فضل وشرف وبر.
وقال أبو عوسجة: (تبارك) هو تنزيه؛ مثل قولك: (تعالى).
وقال الكسائي والقتبي: هو من البركة؛ وهو ما ذكر.
قال ابن القيم رحمه الله: “البركة هي فَعْلَة، والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارة. والمفعول منها مبارك، وهو ما جُعل منها كذلك فكان مباركًا بجعلِه تعالى. والنوع الثاني: بركة تُضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها (تبارك)، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك. وأما صفته (تبارك) فمختصة به كما أطلقها على نفسه في قوله: {تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقوله: {تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِيرٌ} [الملك: 1]. أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تُطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بناء (تبارك) على بناء (تعالى) الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك (تبارك) دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها، وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك تعاظم. وقال ابن عباس: جاء بكل بركة”.
وقد جعل الله عز وجل البركة في الأرض التي أسكن فيها آدم وذريته، فقال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآء لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10]. {وبارك فيها} أي أكثر خيرها، بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوانات والمياه. {وقدَّر فيها أقواتها} أي قسم فيها أقواتها للناس والبهائم على قدر طلب الطالبين.
كما بارك في ذرية آدم من نسل نوح عليه السلام، وبارك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لما دعا نوح عليه السلام ربه فقال: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلۡنِي مُنزَلا مُّبَارَكا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ} [المؤمنون: 29]، فاستجاب له ربه فقال عز وجل: {قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰم مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَم مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَم سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم} [هود: 48].
عن الحسن البصري، في قوله: {اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك}، قال: “فما زال الله يأخذ لنا بسهمنا وحظنا، ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا، كلما هلكت أمة خُلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه، حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس”.
وقيل: “المراد بالبركة هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، فكل العالم من ذرية أولاده الثلاثة، ولم يُعقب من كان معه في السفينة غيرهم. وعلى أمم ممن معك يعني: وعلى ذرية أمم ممن كانوا معك في السفينة. والمعنى: وبركات عليك وعلى قرون تجيء من بعدك من ذرية أولادك، وهم المؤمنون”. قال محمد بن كعب القرظي: “دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة”.
وجعل عز وجل أماكن في الأرض مخصوصة بالبركة أيضًا من جملة البركة العامة، فبارك في مكة المكرمة وجعلها حرمًا آمنًا، فقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيۡت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا وَهُدى لِّلۡعَٰلَمِينَ} [آل عمران: 96].
عن عبد الملك بن جريج -من طريق ابن ثور- قال: “بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنها مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة. فقال المسلمون: بل الكعبة أعظم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا} إلى قوله: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} وليس ذلك في بيت المقدس، {ومن دخله كان آمنًا} وليس ذلك في بيت المقدس، {ولله على الناس حج البيت} وليس ذلك لبيت المقدس”.
والمراد بالبيت هنا البيت وما حوله من الحرم، لأن ذلك موجود في جميع الحرم. وقوله {مباركًا} يعني أنه ثابت الخير والبركة؛ لأن البركة هي ثبوت الخير ونماؤه وزيادته، والبرك هو الثبوت، يقال: برك بركًا وبروكًا إذا ثبت على حاله. ففي الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونمو الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والدِّيانة.
وبورك في المدينة النبوية بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لها بذلك، قال بعض الأئمة: “إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كرر الدعاء المذكور مرات عديدة؛ مع أن استجابته قد ظهرت بعد أول مرة، إن الحكمة من هذا التكرار هي وفرة الوفرة في أوزان دار الهجرة وأكيالها على شكل محسوس؛ إذ إن الفيض والبركة اللذين في مُدّ أوساع المدينة المنورة لا يظهران في أكيال وأوزان سائر البلاد.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلما عاد من سفر إلى المدينة المنورة كان يمد نظره إلى جدران تلك المدينة وأحجارها وأسواقها وأشجارها، ويرخي النظر بالفرح والابتهاج إليها، ثم يدعو عارضًا دعاءه إلى واهب الآمال إذ يقول: «يا رب قدِّر لنا القرار في المدينة، ويسر لنا سبل المعيشة بالرزق الحسن، يا رب! بارك في المدينة بضعفي بركة مكة، اللهم اجعل مُدّ المدينة وصواعها وأكيالها مباركًا لهم»”.
وبورك في بيت المقدس وما حوله، قال تعالى: {سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ} [الإسراء: 1]. قال مقاتل بن سليمان: “{الذي باركنا حوله}، يعني بالبركة: الماء، والشجر، والخير”.
وبارك الله عز وجل في أنبيائه المرسلين، واصطفاهم واختارهم على العالمين، وجعلهم مباركين أينما كانوا، نفاعين للناس لكون البركة هي الخير والنفع العام.
قال أبو بكر الكيساني: “البركة هي التي من تمسك بها أوصلته إلى كل خير وعصمته من كل شر، وهو المبارك”. وقيل: هي “اسم كل خير لا انقطاع له”، أو “اسم كل شيء لا تبعة له عليه فيه”. وقيل: هي “اسم كل خير ينمو ويزاد بلا اكتساب”. وقيل: “البركة هي الزيادة والعلو”. وقيل: “الدوام والثبات”. ومنه قولنا: (وبارك على محمد)؛ أي أدم شرفه، وكرامته، وتعظيمه.
ووعد الله عباده إذا ما آمنوا واتقوا أن يغدق عليهم من السماء ويخرج لهم من الأرض بركاتهما، قال تعالى: {وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ} [الأعراف: 96].
يقول الإمام الشعراوي رحمه الله: “أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في الرزق الحلال، ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا. ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة، مع أن الزكاة في ظاهرها نقص، فحين تملك مائة جنيه وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه، يكون قد نقص مالك في الظاهر. وإن أقرضت أحدًا بالربا مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة، لكن الحق سمى النقص في الأولى نماء وزكاة، وسمى الزيادة في الثانية محقًا وسحتًا، وسبحانه قابض باسط”.
وقال في موضع آخر: “وما معنى البركة؟ البركة هي أن يعطي الموجود فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون جنيهًا ونَجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة ودون ضيق. فنتساءل: كيف يعيش؟ ويجيبك: إنها البركة. وللبركة تفسير كوني؛ لأن الناس دائمًا – كما قلنا سابقًا – ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإيجاب، ويغفلون رزق السلب. رزق الإيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافها، ورزق السلب أن يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف كثيرة، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج”.
وعمومًا فالبركة هي المقصود والمأمول؛ لأن البركة إذا وقعت في القليل أغنت عن الكثير، وأعانت على طاعة المولى سبحانه وتعالى، إذ البركة هي المقصودة، فإذا حصلت فلا يُلتفت إلى الأسباب قلّت أو كثرت.
وإذا كانت البركة هي الزيادة والنماء؛ فمعناها زيادة في العقل، ونماء في الفهم والعرفان، فإذا عقلنا القرآن وفهمنا مضامينه، وعلمنا أحكامه ونفذناها بدقة على مراد الله حصلت البركة والزيادة والنماء في كل شيء، فكان الانطلاق والانعتاق والتحرير، وكان البناء والعز والدولة والسلطان.