شكّل الارتباط المتين للنصّ القرآني بالنصّ التوراتي، سواء في المجالات العقدية أو التشريعيّة، إضافة إلى تجارب التعايش الاجتماعي المبكّرة بين أبناء الملّتين، الإسلامية واليهوديّة، مرجعيّة ثريّة للفكر الإسلامي الكلاسيكيّ وللفكر العربي الحديث في معالجة الظّاهرة اليهوديّة. وبفعل ثقل التاريخ واستفزاز الوقائع، وما نجم عنهما من تطوّرات، جرّاء تغيّر بنية الخارطة السياسيّة للعالم العربي، بتأسّس دولة عبريّة تستلهم وجودها الحضاريّ من المقاصد العامّة للتراث التوراتي، تأتّى انشغال الفكر العربي المستجدّ باليهوديّة واليهود. فكان الاهتمام بهذا المعطى، بالقدر الذي يثيره الماضي فإن الحاضر يستلزمه، انجرّ عن ذلك تراكم قائمة مرجعية دراسيّة هامّة في المكتبة العربيّة، انشغلت بهذا الحقل، تمازج فيها الإيديولوجي بالعلميّ والدينيّ بالسياسيّ.
جاء اهتمامنا بالمقاربة الدينيّة لليهوديّة في الفكر العربي، خلال النّصف الثّاني من القرن العشرين، ضمن هذا الانشغال، فما هويّة هذه المقاربة؟
إنها نظريّة فكر ومنهجه إلى فكر آخر، سائرة بحسب منظومة تعقّل مسلَّطة على حقل المقدّس في دين محدّد، أطلقنا عليها تسمية الاستهواد. رُمنا من خلالها متابعة محاولات التفهّم الدّائرة في حقل الديني والمقدّس، الساعية لفهم الظاهرة اليهوديّة، بغية الغوص في مدلولات تشكّلها وخفايا رموزها. فالمقاربة الدينية محاولة لحصر الموضوع في حقل الفكر الديني، وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بمناهج حقول أخرى، تاريخية وسوسيولوجية، لمتابعة المسار اليهودي العام. وقد تمّ تحديد مجال هذه المقاربة بالفكر العربي، وبالنصف الثاني من القرن العشرين، لضرورات منهجية.
أوّلا: حتى يتيسّر حصر الأدبيّات والرّؤى والأفكار المعنيّة، لتقديرنا أن الإنتاجات العربيّة تهون متابعتها على الباحث الفرد، وتتعذّر لو وسِّعت إلى مجال الفكر الإسلامي، لامتداد حيزه خارج اللسان العربي، إلى لغات أخرى، كالأردية والتركية والفارسية وغيرها، وهو ما يتطلّب طابور باحثين.
ثانيا: اِلتزامنا بالنّصف الثّاني من القرن العشرين لاعتبارات عدّة، منها انخراطنا في الإشكاليات المطروحة على فكرنا الحديث أساسا، ولما عرَفه الإنتاج العربي الحديث في هذا المجال، من تراكم كمّي وكيفي مع هذه الفترة، حيث بدأ التخصّص يؤسّس هويّته واستقلاليته في ميدان اليهودية؛ إضافة إلى قناعتنا أنّ دراسات الأديان، في أبعادها التاريخية والاجتماعية، لا تجد فاصلا في تداخلها مع الحديث والحاضر، فالخطّ الرابط متّصل لا منفصل، إذ “تاريخ الأديان” جدّ مرتبط بـ”حاضر الأديان”.
أما عن هيكلة البحث فقد أتت كالآتي: اهتمّ الباب الأوّل بالفكر العربي واليهودية، الذي عالجنا في مستهلّه دواعي الانشغال باليهودية في الفترة الحديثة، مشيرين في ذلك إلى المنشأ السياسيّ لحقل هذه الدراسة، ولِما للمسألة الفلسطينية من دفع للاهتمام بالإسرائيلي وبعث اليهودي الهاجع في الذاكرة الإسلامية المبكِّرة. وكان لزاما للإحاطة بما يميّز الفكر العربي الحديث المرور عبر الرّدود الإسلامية الكلاسيكيّة تجاه اليهود واليهوديّة، والتي كان الانشغال بها في الفصل الثاني، من خلال حصر منطلقات هذه المدرسة، وشواغلها، وآليات دراستها وأهدافها.
ثم في فصلٍ لاحق من هذا الباب، حاولنا تحديد مدارس قراءة اليهودية في الفكر العربي الحديث، فضُبِطت خصائص كلّ من التيّارين: الدعويّ والنقديّ، اللّذين تزعّما الانشغال بهذا المبحث.
أمّا الباب الثاني، فقد انشغل بسفر التوراة من منظور الرّؤى العربية المختلفة، فقد عرِضت فيه النظريّة العربية حول تشكّل التوراة، فجاء الفصل الأوّل مدخلا تعريفيّا بالتّوراة، تلاه فصل ثان اهتمّ بقراءة التوراة، حصرت فيه تنوّعات المناهج، مع تعريف بالقراءتين المباشرة وغير المباشرة، ثم عرّجنا على قراءة المصادر الأربعة في الفكر الغربي، وبعض المبادرات العربيّة في ذلك، كالتي أنجزها د. كمال سليمان الصّليبي (وردت ضمن كتابيه: التوراة جاءت من جزيرة العرب، ط: 2، مؤسّسة الأبحاث العربية، لبنان 1986؛ خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، دارالسّاقي، لندن 1988). وفي فصل ثالث، تركّز الاهتمام على جمع التوراة وتدوينها، ثم متابعة المسار الذي قطعته من الشفهيّ إلى المدوَّن، وما أثارته هاتان المرحلتان من مواقف لدى الدارسين العرب.
أمّا الباب الثّالث، المتعلِّق بقراءة الإيمان والميثولوجيا التوراتيين، فتمّ فيه عرض الرؤى في الألوهة والنبوّة، وأُردِف بفصل أخير انشغل بالفكر الأسطوري التوراتي، قدِّمت فيه الرّؤى العربية الحديثة للخوارق والمعاجز والعجائب، التي تطفح بها التوراة، وأردفنا ذلك بالحديث عن علاقة التّراث الأسطوري الشّرقي بالأسطورة التوراتية.
أما الباب الأخير والختاميّ، فقد تابع التلمودَ والشّخصيةَ اليهودية. كان التعريف، في جزئه الأوّل، بهذه المدوّنة وبتعامل الفكر العربي معها، باعتبارها نصّا مقدّسا رديفا للتوراة، ودورها في صياغة الشّخصية اليهودية. أما الفصل الأخير المهتمّ بالشخصية اليهودية، فقد كان الانشغال فيه بتعريف اليهودي وتحليل شخصيته، وبالموانع التي حالت دون إرساء مقاربة علمية له.
فبمقتضى الانخراط القسري والإلزامي لهذا المبحث، ضمن ثقافة المواجهة والصّراع ضدّ الصهيونيّة والدّولة العبرية الناشئة، برغم الفاصل الإبستيمولوجي الذي ينبغي أن يفصل بين العلمي والإيديولوجي، جاءت المقاربة العربيّة مصبوغة ومسكونة بهاجس السياسيّ، الذي كان وقْعه كبيرا على مصداقيتها وعلميتها. من هذا المنظور اِرتأينا الالتزام بقراءة تحليلية نقدية لأدبيات تلك الفترة، غاية التقييم والتقويم، عبر عرض مختلف الرّؤى بخصوص اليهوديّة، تشكّلا ونصّا مقدّسا واعتقادا وشخصيّة بشرية. وآليتُ على نفسي الانشغال بهذه المهمّة، التي أقدّر صعوبتها وخطورتها، نظرا لاتساع الحقل وتعدّد مشاغله، التي يختلط فيها الدينيّ بالتاريخيّ، والأسطوريّ بالأثريّ؛ ونظرا لوقوع البحث في حقبة مأزومة وعصيبة تمرّ بها البلاد العربية، سواء مع ما عُرف بصراع المواجهة مع إسرائيل، أو عبر ما يُنعَت بمعركة السّلام الحالية.
كلّ هذه العراقيل عُدّت واهية، أمام قناعتنا ألاّ ولاء للعلمي إلاّ من داخله، وأنّ قيَمه مستمدّة من حرمه لا غير، فكان الحرص على أن يكون النقد من خارج الدوافع الإيديولوجية أو العراقيل القومية. وبفضل ما تيسّرت من متابعة للأدبيّات العربية الدارسة لليهودية والأدب العبري، لم نعثر على دراسة خصِّصت لرصد الرّؤية العربية لليهوديّة في أبعادها الشّاملة، باستثناء دراسة أنجزها الدكتور يوسف مهنّا حدّاد، لم يسائل فيها الأدبيات العربية صحّتها أو علميتها، وإنّما سعى لعرضها، واقتصر على تقديم المتناثر في شأن اليهودية وإسرائيل، دون تقييم أو تمحيص أو نقد. وبقدر ما نُجلّ عمله التجميعي، فإنّا لا نرى فيه دفعا بالمقاربة العربيّة نحو العلميّة والتصحيح، وهو ما تستلزمه وتحتاجه المبادرات المتناثرة في حقل تاريخ الأديان في فكرنا الحديث.
أما عن المرجعيّة التي استمدّ البحث منها مادّته، فهي ثلاثة أقسام:
– مرجعية كلاسيكية، حاولنا فيها الاطّلاع على ما تيسّر لنا من كتب الرّدود الإسلاميّة، إذ أَمْلت منهجيّة البحث العودة إلى إنتاجات تلك الفترة، حتى يُعايَن مدى الانفصال والاتصال، والتجاوز والإبداع، أو التكرار والانحباس، الذي صبغ القراءة العربية الحديثة لليهودية والتوراة.
– مرجعية عربية حديثة، وهي التي تعنينا بالأساس، جرى تصنيفها حسب خصائص توجّهاتها الفكرية التي تميّزها، وقد حرصنا على اللّحاق بكلّ ما تناول الشّعب العبري والتوراة في الحقبة المحدّدة، حتى ولو كان مدرَجا ضمن المؤلّفات السياسيّة، ونأينا عن الكتب السياسيّة الصّرفة التي تهتم بإسرائيل الحديثة، لابتعادها عن شواغل البحث. ولم يأت تجميع المرجعية الحديثة انتقائيًّا بل شاملا، نظرًا لما يطمح له البحث من إرساء طرح تحليلي نقدي للإنتاجات كافة، الهزيلة منها والجيّدة، العميقة والسّطحية. لم تكن أولويّة لمرجع على آخر، وإنما جاء السّعي لتحليل العقلية العربية في تمظهراتها وتجلّياتها كافة، تجاه الظّاهرة اليهودية، فكان التعامل مع كلّ مرجع بحسب ما تسمح به منهجية البحث ومادته.
– مرجعية غربية، وقد أتت الحاجة إليها لتوضيح بعض الأمور اللاّزمة في بنية البحث، أو لسدّ بعض الفراغات، التي لم تجد معالجة في المؤلّفات العربية، كتحديد تواريخ أنبياء التوراة، وقد أتت ثانوية في البحث.
من جانب آخر، لا شك أن علم الأديان، على اختلاف مباحثه، يؤسّس خصوصيّة منهجيّة بين علوم شتّى، يأبى فيها أن يكون خادما للاّهوت أو الإيديولوجيا، أو تابعا لغيره من العلوم الإنسانية أو الاجتماعية. فهو في حكمه في شأن الظّاهرة الدينيّة أيّا كان نوعها، حريص على تأسيس الانفصال والمسافة بين الذّات والموضوع، إذ بغيته الفهم لا غير. وتقديرنا أنّ التزام الإنتاجات العربية بمنهجية هذا العلم، داعية إلى طرح مراجعة ونقد، شطْرَ ما يُنتَج باتجاه الذّات وما يُنتَج باتجاه الغير، بغية تشييد الأقْوم والأصْوب. وما قمنا به مع المقاربة العربية لليهودية، يندرج ضمن هذه الخطّة الواسعة لهذا العلم، انتهى فيها بحثنا إلى نتائج عدّة، نقدّر أهمّيتها في ما يتعلّق بدراسة الأديان عموما وما يتعلّق باليهودية خصوصا. فقد حملت المقاربة العربية للدّين اليهودي في ثناياها مزاياها ومساوئها، لِما لهذا الحقل من تأثّر جدليّ بالظّرفيات والوقائع، الاجتماعية منها والسياسية، ولِما له من صلة مباشرة مع تطوّر مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية في الفكر العربي.
إذ تُملِي أولى مستلزمات الدّراسات الدينيّة العلمية التمفصل الواعي بين الذّات وموضوع الدّراسة، وهذا الأمر لم يراع إلاّ في القليل مع إنتاجات المقارَبة العربية الحديثة في شأن اليهودية. ويُعَدّ التفطّن لهذا المؤثّر ، بفعل التأثيرات الجليّة لبنى فكريّة وأحداث سياسيّة في دراسة اليهودية، أمرا لازما ومنهجيا للباحثين في الثّقافة العربية والإسلامية، فكلّ عمليّة توظيف أو زيغ، واعية أو لاواعية، من شأنها أن تبعد هذا العلم عن مساره القويم.
من هذا المأتى يحتّم ارتباط المقاربة العربية، في شقّها الدعويّ، بالجانب التراثي في قراءة اليهودية، التنبّه لما مسّ فكر الردود القديم من زعزعة معرفيّة، تتطلّب التجاوز والتواصل، حتى لا تكون الأبحاث مغترِبة ولا تاريخية. فقد عبّرت إشكاليات الدّراسات الكلاسيكيّة عن مستوى لحظتها التاريخية، ما يجعل نتائجها ورؤاها غير مطلَقة الصلوحيّة. فمثلا جَرَف التعاملُ مع الأسطوري واللاّمعقول التوراتييْن، بمنطق الصّدق والخطأ، الموضوعَ إلى مجال ضيّق، في وقت ظهرت فيه مناهج دراسية تتعامل مع الأسطورة بأساليب علمية، أثبتت أهليتها في هذا الحقل، عبر الغوص في منطق الواقعة ودلالتها الخاصة. ومن ناحية المواقف القرآنية في شأن اليهودية واليهود، يُفتَرض ربطها بآليات علوم القرآن، من أسباب نزول، وأوّل ما نزل وآخر ما نزل، وناسخ ومنسوخ، ومطلق ومقيّد، وما شابهها، أي دراسة المدلولات في التّاريخ والاجتماع، حتى يجري استنطاقها بشكل صائب بخصوص الأديان.
أمّا فيما يخصّ ما عاينّاه في شأن مدارس قراءة اليهودية في الاستهواد العربي فنوجزه في التالي: لئن كان الاتّفاق حاصلا بين التيّارين، الدعويّ والنقديّ، حول الإقرار بالتشوّهات اللاّحقة بالنصّ التوراتيّ، فإنّ الاختلاف حادث في شأن المصدرية الأولى، أَإلهية أم تاريخية؟ وبقدر ما كان بحث التيّار الأوّل منصبًّا على التغيّرات الطّارئة على “الكلام الإلهيّ”، كان انشغال الثّاني منحصرا بالتشكّلات المارّ بها النصّ في التاريخ. فالتقاء التيّارين يتمّ عند نقطة التبدّلات والتغيّرات، مع غياب واضح بينهما للنّقد والتّصحيح، إلاّ ما ندر، فأتت الانشغالات بالآخر، من باب أنّ الأمر تقتضيه الضّرورة والحاجة، الدينيّة أو القومية، ووقع التغافل عن أي مراجَعة داخلية، وهو أمر هام ولازم، كان سيعصم من انحرافات منهجية خطيرة واقعة في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، تبيّن لنا أنّ المنهج الصّائب في التّعامل مع المعتقدات والتّشريعات اليهوديّة، يستلزم دراسة الظّاهرة في التاريخ لا فوقه. إذ لإدراك مدلولات الإله اليهودي، مثلا، في تمظهراته المختلفة، حريّ متابعته ضمن تحوّلات الاجتماع، الذي تشكّل في طياته وعبره، وبهذا تنزوي مقولات “التحريف” و”الزّيغ” و”الضّلال” اللاّتاريخية لتفسح المجال إلى وعي الظاهرة في عمق تشكّلها وتجلّياتها.
كما لاحظنا أيضا أنّ معالجة الاستهواد العربي لليهودية في الفترة الحديثة، تاريخا ودينا، قد غابت منه عديد المحاور الهامّة، أو جاءت هزيلة ولا تفي بالحاجة، كالاهتمام ببنية التلمود ومضامينه. وربّما تأتّى ذلك جرّاء تأخّر ترجمة هذا السّفر إلى اللّسان العربي، وهو ما جعل اقتحام حصونه أمرا ليس في متناول عامّة الدّارسين. ولأجل أن يُدرَس التّلمود دراسة علميّة، يُفتَرض عدم الاحتكام في شأنه للدّراسات الواسطية والغوص فيه مباشرة. فالتّلمود كما تَبيَّن لنا ليس خزّان شرور -مثلما يُصوَّر خطأ-؛ بل تجلّيات عقلية إنسانية. وأمّا ما يتعلّق بالشّخصية اليهودية فقد خلصنا إلى أنّها ليست جامدة في التاريخ، لذا ينبغي التعامل معها ضمن تبدّلات الاجتماع وتغيّراته، مع عدم إهمال المتخلّد التراثي في تركيبها وتوجيهها.
نقدّر أنّ هذه الاستنتاجات الموجَزة، في شأن منهج الاستهواد العربي الحديث، والواردة في بحثنا بطريقة مفصّلة، ستساهم في إصلاح منهج التعامل مع الآخر وتصحيحه، إذ نقْد المنهج هو سعيٌ نحو علميّة المنهج.
ــــــــــــــــ
نبذة عن المؤلف:
عزالدين عناية، أستاذ تونسي يدرّس في جامعة روما متخصص في دراسات الأديان. صدرت له مجموعة من الأبحاث منها: “الأديان الإبراهيمية”، “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم”، “الدين في الغرب”؛ فضلا عن عدد هام من الترجمات منها: “تخيّل بابل” لماريو ليفراني، “علم الاجتماع الديني” لإنزو باتشي، “علم الأديان” لميشال مسلان.
ـــــــــــــــ
عنوان الكتاب: الاستهواد العربي.. في مقاربة التراث العبري
المؤلف: د. عزالدين عناية
دار النشر: منشورات الجمل (بيروت)
الحقوق محفوظة للمؤلف لا غير
المصدر : https://dinpresse.net/?p=5325