6 أغسطس 2025 / 23:10

الاحتلال الشامل لقطاع غزة: بين أوهام الحسم ومأزق الواقع

دين بريس ـ سعيد الزياني
تشير التطورات الأخيرة في سياق الحرب المستمرة على قطاع غزة إلى تحول لافت في الخطاب السياسي الإسرائيلي، بعد تداول أنباء متطابقة عن وجود نقاش داخل الحكومة حول احتمال تنفيذ احتلال شامل للقطاع، في خطوة ستكون الأولى من نوعها منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي منه عام 2005.

هذه المؤشرات تفتح باب التساؤل حول الدوافع الكامنة وراء هذا التوجه، وحدود قدرته على فرض واقع جديد في ظل التعقيدات الميدانية والاعتبارات الإقليمية والدولية المتشابكة.

ويثير الحديث عن احتمال إقدام إسرائيل على احتلال قطاع غزة بالكامل جدلا واسعا داخل إسرائيل وخارجها، إذ يتقاطع هذا الطرح مع أسئلة أمنية وسياسية وأخلاقية شائكة، فعلى الرغم من مرور أكثر من عشرة أشهر على اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، لا تزال القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل عاجزة عن تقديم رؤية نهائية لما بعد العمليات العسكرية، في ظل عودة مقاتلي حماس للظهور في مناطق سبق أن أعلنت تل أبيب السيطرة عليها.

هذا العجز، الذي بدأ يتحول إلى صداع مزمن داخل الحكومة، يدفع بعض الأطراف إلى التلويح بخيار الاحتلال الكامل باعتباره “الحل الأخير”، لكنه في الواقع يفتح بابا واسعا نحو مزيد من التعقيد والمخاطر.

أولى الاعتراضات الجدية على هذا التوجه صدرت من المؤسسة العسكرية نفسها، حيث عبّر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، حسب تسريبات إعلامية، عن تحفظه الصارم تجاه فكرة السيطرة الدائمة على القطاع، محذرا من أن ذلك سيحول غزة إلى مستنقع استنزاف مفتوح على غرار تجربة الولايات المتحدة في العراق.

وتكمن الخشية الكبرى لدى القيادات الأمنية في غياب استراتيجية للخروج، وفي صعوبة إدارة منطقة مكتظة بمليوني نسمة تعاني من دمار شامل ونقص حاد في الموارد.

وفي المقابل، تلقى الفكرة دعما واضحا من أوساط يمينية متطرفة داخل الائتلاف الحاكم، لا سيما من وزراء يرون في الاحتلال وسيلة لإعادة “هيبة الردع” وضرب البنية التحتية لحماس بشكل نهائي، هؤلاء يعتقدون أن استمرار العمليات المحدودة لا يفي بالغرض، وأن الحسم يتطلب اجتثاثا شاملا للتنظيمات المسلحة، ولو أدى ذلك إلى كلفة بشرية باهظة.

هذه المقاربة، وإن بدت منسجمة مع الخطاب المتشدد لبعض الدوائر السياسية، إلا أنها تتجاهل حقيقة تاريخية راسخة مفادها أن الاحتلال الإسرائيلي المباشر لغزة انتهى في 2005 لأنه لم يعد قابلا للتحمل، لا محليا ولا دوليا.

من زاوية أخرى، عبّرت منظمات دولية وإنسانية عن قلق بالغ من تبعات أي احتلال طويل الأمد، خصوصا في ظل الأوضاع الإنسانية الكارثية التي تعيشها غزة حاليا، فاستمرار القصف والانهيار شبه الكامل للبنية التحتية وغياب الخدمات الأساسية يُنذر بانفجار كارثي إذا ما اقترن بسيطرة عسكرية مباشرة، إضافة إلى أن أي عملية من هذا النوع ستقابل على الأرجح بإدانات دولية واسعة، وقد تعيد طرح قضايا متعلقة بجرائم الحرب وتهجير السكان، وهي ملفات حساسة في السياق القانوني والدبلوماسي.

أما من الداخل الإسرائيلي، فقد عبّرت عائلات الرهائن عن مخاوفها الشديدة من أن تؤدي أي عملية عسكرية شاملة إلى مفاقمة وضع ذويهم المحتجزين في غزة، هذه العائلات، التي بات صوتها أكثر تأثيرا في الرأي العام، ترى في أي تصعيد غير محسوب تهديدا مباشرا لحياة الرهائن، خصوصا أن حركة حماس قد تستخدمهم كدروع بشرية أو كورقة ضغط في حال انعدام الأفق السياسي.

تاريخيا، فشلت إسرائيل في إخضاع حماس من خلال القوة العسكرية وحدها، بل إن كل جولة قتال كانت تفضي إلى إعادة تموضع جديد للتنظيم، الذي أثبت قدرة لافتة على استعادة بنيته العسكرية رغم الحصار والاستهداف المستمر، هذا المعطى يعزز رأي من يعتقدون أن أي محاولة لإعادة احتلال القطاع دون خطة سياسية شاملة سيكون محكوما عليها بالفشل، بل قد يؤدي إلى إحياء حالة مقاومة شعبية أكثر ضراوة، ويزيد من عزلة إسرائيل الدولية.

وفي هذا السياق، فإن الرهان على الحل العسكري وحده لا يبدو واقعيا، خاصة أن الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي الأهم لتل أبيب، لم تبد حماسا لمثل هذه الخطوة، وتحرص على أن لا تنزلق الأمور إلى مستويات تفقد فيها واشنطن هامش المناورة الدبلوماسية في المنطقة، كذلك، فإن دولا أوروبية عدة بدأت تلوّح بإمكانية اتخاذ إجراءات دبلوماسية أو قانونية إذا استمر التصعيد بلا أفق سياسي.

من جهة أخرى، فإن حركة حماس رغم كل الضربات لا تزال تحتفظ بقدرة على التأثير والمفاجأة، ما يجعل فكرة “القضاء الكامل” عليها هدفا بعيد المنال، وفي غياب بدائل فلسطينية متفق عليها، فإن إسرائيل قد تجد نفسها في حال نفّذت الاحتلال أمام خيار إدارة قطاع مدمر ومشحون بالكراهية، وسط مجتمع دولي يتابع بقلق وانقسام داخلي متزايد في تل أبيب نفسها.

إن الاحتلال الكامل هو مجازفة سياسية تنطوي على احتمال انهيار تماسك الحكومة الاسرائيلية، وتصعيد المواجهة مع المجتمع الدولي، وتعميق المأزق الأخلاقي الذي تواجهه إسرائيل في تعاملها مع القضية الفلسطينية.