عبد الله بوصوف
يُعدّ عيد المولد النبوي الشريف من أبرز المناسبات الدينية التي دأب المغاربة على الاحتفاء بها منذ قرون طويلة، إذ اكتسب طابعًا اجتماعيًا وثقافيًا خاصًا يجمع بين التعبير عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين وبين الحفاظ على خصوصية الهوية المغربية في إطار التقاليد الإسلامية الجامعة. وقد عرف المغرب في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة تجليات متعدّدة لهذا الاحتفال، غير أنّ الأسرة العزفية في سبتة، وبالخصوص القاضي أبو العباس العزفي (ت 633هـ/1236م)، كانت السباقة إلى إرساء طقوس منتظمة لإحياء هذه المناسبة. وقد ألّف العزفي كتابًا بعنوان الدر المنظم في مولد النبي المعظم، دعا فيه إلى تخليد ذكرى المولد النبوي باعتباره بديلاً تربويًا وثقافيًا للمسلمين الذين كانوا يشاهدون النصارى يحتفلون بميلاد المسيح عليه السلام. ومنذ ذلك الحين أصبح الاحتفال بالمولد وسيلة لترسيخ الهوية الدينية والثقافية وتجديد التعبير عن الارتباط بالسيرة النبوية العطرة.
وقد ارتبطت هذه المناسبة في الذاكرة الشعبية المغربية بتمثلات رمزية واجتماعية عميقة. فمن صور الطفولة التي احتفظت بها بعض المناطق، وخاصة في بلاد الريف، أنّ المغاربة كانوا يستقبلون المولد النبوي كما لو أنهم يرحبون بمولود جديد في البيت. كانت النساء يرفعن الأعلام المصنوعة من أثمن الأقمشة مثل الفولار أو السبنية فوق أسطح المنازل، ويحضرن أطعمة خاصة تُقدَّم عادة للمرأة النفساء، في إشارة رمزية لقدوم المولود الأعظم. كما كان من عادات الأسر ذبح ديك أو إعداد طبق الكسكس، وحرص الأطفال على ارتداء ملابس جديدة، وهو ما يعكس اندماج الدين في تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة بطريقة تلقائية ومؤثرة.
ولم يقف الأمر عند حدود الطقوس المنزلية، بل أبدع المغاربة في إنتاج أشكال ثقافية وروحية متنوعة للتعبير عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء عبر المدائح النبوية، أو المواسم الشعبية، أو من خلال الأمثال واللغة الدارجة والأمازيغية التي تزخر بتعابير دينية ذات مضامين أخلاقية وروحية. وقد جعل هذا التراكم الثقافي من المولد النبوي حدثًا مجتمعيًا طبيعيًا لا يُنظر إليه كعيد مضاف إلى الأعياد الشرعية، بل كجزء من الذاكرة الحضارية ومن عناصر التماسك الاجتماعي للشعب المغربي.
ورغم أن بعض التيارات الفقهية تعتبر الاحتفال بالمولد النبوي نوعًا من البدعة، فإن مثل هذا الموقف يغفل عن إدراك السياق التاريخي والاجتماعي الذي أفرز هذه الممارسة. فالمغاربة لم ينظروا يومًا إلى المولد كعيد ديني جديد يوازي عيد الفطر أو عيد الأضحى، وإنما اعتبروه مناسبة لإحياء القيم الإسلامية وترسيخ محبة الرسول الكريم وآل بيته الطاهرين. ومن ثم فإن أي حكم فقهي لا يستحضر هذه الأبعاد التاريخية والثقافية يظل قاصرًا عن فهم الظاهرة في عمقها.
إنّ الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب ليس ممارسة طقوسية معزولة، بل هو تجلٍّ حضاري يعكس تفاعل المجتمع المغربي مع دينه وتاريخه وثقافته. فهو يعبّر عن محبة صادقة للرسول صلى الله عليه وسلم، ويبرز قدرة المغاربة على تحويل المناسبات الدينية إلى فضاءات للتماسك الاجتماعي والتعبير الثقافي. ومن هنا يمكن القول إن فهم هذه الظاهرة يتطلب تجاوز الأحكام المعيارية الضيقة والاعتراف بخصوصيات الهوية المغربية التي استطاعت أن تدمج الدين في تفاصيل الحياة اليومية بأسلوب متفرّد، يزاوج بين الأصالة والتجديد ويجعل من حب الرسول صلى الله عليه وسلم رافعة أخلاقية وثقافية داخل المجتمع.