جمعها: د.يوسف الحزيمري
كان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد في العبادة على غير عادته، ففي “الصحيحين” عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”. هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: “أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشدّ المئزر”. وفي رواية لمسلم عنها، قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره”
وترجم البخاري رحمه الله لحديث عائشة رضي الله عنها “العمل في العشر الأواخر من رمضان”، قال بدر الدين العينى: و”مطابقته [أي حديث عائشة رضي الله عنها] للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن شدّ المئزر وإحياء اللَّيْل وإيقاظ الْأَهْل كلهَا من الْعَمَل فِي الْعشْر الْأَوَاخِر”، وقولها: “إذا دخل العَشْر”؛ أي: العَشْر الأواخر من رمضان، ومعنى (شد مئزره) هو كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد لها زيادة عن المعتاد، وقيل: هو من ألطف الكنايات عن اعتزال النساء وترك الجماع. والمئزر الإزار، وهو ما يلبس من الثياب أسفل البدن.
قال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجدَّ في العبادة، كما يقال: شددتُ لهذا الأمر مئزري أي: تشمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز كمن يقول: طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شد مئزره حقيقة لم يحله، واعتزل النساء، وشمر للعبادة.
(وأحيا ليله): هو من باب الاستعارة، شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام. قال الإمام الكرماني: قوله {أحيا ليله} فيه وجهان أحدهما: أنه راجع إلى العابد لأنه إذ ترك النوم الذي هو أخو الموت للعبادة فكأنه أحيا نفسه، وثانيهما: أنه عائد إلى الليل فإن ليله لما قام فيه فكأنما أحياه بالطاعة كقوله تعالى: {كيف يحي الأرض بعد موتها}.
و(أيقظ أهله) نبههن للعبادة وحثهن عليها، وطلب ليلة القَدْر في العَشْر الأواخر، قال ابن بطال: وفى قوله: (أيقظ أهله) من الفقه أن للرجل أن يحض أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر.
وقال ابن حجر: و(أيقظ أهله) أي للصلاة، لما روى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
وإنما اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العشر على غير عادته وفعل ذلك -كما قال ابن بطال-: لأنه أخبر أن ليلة القدر فى العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمته الأخذ بالأحوط فى طلبها فى العشر كله لئلا تفوت، إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن يكون كاملا، فمن أحيا ليال العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر، ولو أعلم الله عباده أن فى ليالى السنة كلها مثل هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالى كلها فى طلبها، فذلك يسير فى جنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفق تعالى بعباده وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة فى عشر ليال؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور فى العمل مَنا من الله ورحمة.
وفي “شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية”: كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، فمنها: إحياء الليل، ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين: المغرب والعشاء.
قال الإمام الصنعاني رحمه الله: “وإنَّما خصَّ بذلكَ صلى الله عليه وسلم آخرَ رمضانَ لقربِ خروجِ وقتِ العبادةِ فيجتهدُ فيهِ لأنهُ خاتمةُ العملِ، والأعمالُ بخواتيمِها”.
روى ابن عبد البر في “الاستذكار” عن بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْتَمِسُوهَا – لَيْلَةَ الْقَدْرِ – فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ”، وقال: “وفي هذه الأحاديث الحض على التماس ليلة القدر وطلبها بصلاة الليل والاجتهاد بالدعاء”.
ولعظم هذه الأيام العشر الأخير من رمضان أقسم الله بها، ولا يقسم الله عز وجل إلا لعظيم، قال تعالى: {وَٱلۡفَجۡرِ وَلَيَالٍ عَشۡرٖ } [الفجر: 1-2] وفي قول أنها “هي العشر الأول من رمضان، وقيل الأواخر منه”. ذكره ابن الجوزي في زاد المسيرعن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكره القرطبي في تفسيره عن ابن عباس والضحاك وذكره أبو حيان في تفسيره: فقال: “وقيل والأظهر قول ابن عباس للحديث المتفق على صحته قالت عائشة – رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، قال التبريزي: اتفقوا على أنه العشر الأواخر، يعني من رمضان لم يخالف فيه أحد فتعظيمه مناسب لتعظيم القسم”.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “وقد حكي عن مالك، رحمه الله، أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء، لا يترجح منها ليلة على أخرى”.
وقال رحمه الله: “والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخير منه، ثم في أوتاره أكثر. والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء: “اللهم، إنك عفو تحب العفو، فاعف عني”؛ لما رواه الإمام أحمد: عن عبد الله بن بريدة، أن عائشة قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني””.
قال الإمام البغوي في تفسيره: “وفي الجملة: أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذرا من قيامها”.