محمد دام بجان
في زمن تُقاس فيه الأمم بمدى تطورها العلمي، وتُوزن فيها الحضارات بقدرتها على إنتاج المعرفة وتكريس القيم الإنسانية، لا تزال كثير من مجتمعات المسلمين — لا سيما تلك الغارقة في وحل التخلف — منشغلة بجدل ماضوي عقيم حول تعدد الزوجات وكثرة الإنجاب، بينما العالم يتحدث عن “الثورة الصناعية الرابعة”، يلوكون نحنُ خطاب “مثنى وثلاث ورباع”، ويتغنون بحديث “تناكحوا تكثروا”، وكأننا لا نزال نحمل رؤوسنا في عصور الخيام والغزو والغنائم.
نعم، لقد كانت لتعدد الزوجات في الماضي مقاصد تُفهم في ضوء السياق التاريخي: المجتمعات كانت تعيش صراعات حربية مستمرة، والرجال كانوا يسقطون في ميادين الجهاد، فكانت الحاجة ماسّة إلى إعادة بناء الكيان البشري للأمة من خلال الإنجاب، وكان ذلك مشروعًا ذا بُعد استراتيجي معقول، بل محمودًا. أما اليوم، فإن سياقنا قد تبدّل كليًا: لم نعد نعيش في زمن الجهاد بالسيف، بل في زمن الجهاد بالعلم، والاختراع، والمعرفة…، لم نعد نحتاج إلى كثرة الأجساد بقدر ما نحتاج إلى وفرة العقول؛ لأن أمامنا نظام عالمي جديد، منظومته ليست قائمة على كثرة البطون، بل على تفوّق العقول، فكيف إذن نبرر اليوم استمرار تشجيع التعدد والإنجاب العشوائي، ونحن نشهد بأم أعيننا شوارع “الدول النامية” وقد امتلأت بأطفال مشردين، وآباء لا يملكون قوت يومهم، وأمهات غارقات في التعب والخذلان…، بهذا، فمن لم يجد لقمة عيش واحدة فكيف يحمل فوق كتفيه أقدار خمس أرواح(أطفال) تنتظر منه الخبز والملح!؟
وليتنا نتوقف قليلاً عند الآية الكريمة التي يُستند إليها في تبرير هذا التعدد:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾
ثم ماذا عن مضمون الآية نفسها ياترى؟
الآية الكريمة تتكون من: شرط، جواب شرط، شرط تابع ونتيجة:
الشرط الأول: الآية تبدأ بقولها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾
وهذا يعني أن موضوعها الأصلي هو العدالة مع اليتامى، وليس التعدد ابتداءً، فالقلق هنا هو من الظلم الاجتماعي، خصوصًا لطبقة ضعيفة (اليتامى)، أي: إذا كان هناك خشية من عدم العدل مع اليتامى، وكان الرجل يتكفل امرأة يتيمة ويريد الزواج بها طمعًا في مالها أو استغلالًا لضعفها.
جواب الشرط الأول:
ثم تنتقل الآية لتقترح حلاًمشروطًا: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم…﴾
أي أن الزواج ليس الغاية، بل وسيلة لحماية العدالة، وتحديدًا الخوف من عدم الإنصاف هو ما يدفع إلى تنظيم العلاقة الزوجية، بمعنى دعكم من هذه اليتيمة إن خفتم ظلمها، وتزوجوا من غيرها ممن تطيب نفوسكم بهنّ، أي خارج العلاقة غير المتكافئة مع اليتامى.
الخيارات المطروحة: ﴿مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾
وهنا يُذكر التعدد كإمكانية، لا كتشريع مُطلق، ولاحظ أن الآية لا تقول: “لكم أن تنكحوا مثنى وثلاث ورباع”، بل تعرض هذه الإمكانية ضمن شرط مقيد.
الشرط التابع: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾
إذا كانت الفاء هنا تفيد الترتيب والتعقيب؛ فإن الآية تدل على تفضيل الواحد، أي أن الخوف من عدم العدل يوجب الانتقال فورًا إلى خيار الواحدة،
وهذا يجعل “الواحدة” هي البديل المقترح إلهيًا، وهي التي تتسق مع الخشية والعدل، أي مع أعلى القيم الأخلاقية في الإسلام
بهذا المفهوم؛ فالتعدد مشروط بالخوف من فقدان القسط، حين يقول: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾
فهذا خطاب تحذيري، وليس ترغيبيًا، أي أن الأصل هنا هو:
عدم العدل يؤدي إلى المنع من التعدد، وعليه؛ فمن المنظور الفلسفي، أي قاعدة أخلاقية لا يمكن أن تُطبق إلا إذا تحقّق شرط نادر وصعب، فإن الأصل فيها المنع، لأن العدل بين النساء أمر شاق، بل تقول آية أخرى بوضوح:
﴿وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا﴾ (النساء: 129)
وهذا يعني أن الشرط معلق على أمر لا يتحقق في الغالب، فيصبح التعدد غير ممكن واقعًا، وإن لم يُحرّم نصًا، هنا الشرط الأخلاقي الحاسم، أي إن وجد أدنى شك في القدرة على العدل، فالحكم هو: “واحدة”.
الخاتمة (النتيجة): ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾
أي أن الاقتصار على الواحدة (أو ما ملكت أيمانكم في زمنها) هو أقرب إلى تجنّب العَوَالة:
العَول: الميل عن الحق
أو الفقر والضغط الاقتصادي
أو الإرهاق الاجتماعي والنفسي
ثانيًا: البنية الفلسفية الأخلاقية للآية
منطق الاحتراز لا التشريع الابتدائي:
الآية تبدأ بالخوف، وتُبنى على “إن خفتم”، و”فإن خفتم”، وهي بنية خطاب تحذيري وليس تحفيزي، وهذا الأسلوب الفقهي يُسميه الأصوليون: خطاب الاحتياط لا الإباحة المطلقة.
المقصد الأخلاقي الأسمى(العدل):
العدل هو المعيار الذي يتقدم على الغريزة، والعدل –في مفهومه القرآني– يكون عدلًا ماديًا، كما يكون نفسيًا وروحيًا أيضًا، وقد صرّح الله في آية لاحقة: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ \[النساء: 129]
أي أن العدل المطلق بين النساء غير ممكن، فكيف يُشرّع القرآن التعدد ثم ينفي إمكانية تحقيق شرطه الأخلاقي لاحقًا؟ الجواب: لأن الأصل هو”اللاتعدد”، والتعدد مجرد رخصة لحالات استثنائية.
ثالثًا: التفكيك الدلالي لفكرة “ما طاب”:
كلمة ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ لا تعني ما “كثُر”، بل ما “استقام وناسب” وجاء بالرضا، بمعنى أن حتى في اختيار الواحدة، لا بد أن تكون العلاقة مبنية على الطيب والقبول، لا على الهوى أو العدد.
رابعًا: إسقاط معاصر للآية:
إن تحويل الآية إلى تبرير للتعدد المطلق، خارج سياقها القرآني والبيئي، هو تشويه للمقصد الأخلاقي للقرآن:
الآية تُقيّد التعدد بقيود صارمة: شرط العدل، شرط الخوف، شرط عدم الطمع في اليتامى.
الآية تختم بخيار اللاتعدد بوصفه الأفضل لحفظ الكرامة والعدالة.
الواقع الاجتماعي الحديث يثبت أن العدل في التعدد نادر، لا سيما في ظل التحديات الاقتصادية والتربوية والنفسية، مما يجعل “واحدة” هي الخيار الأنسب قرآنيًا وواقعيًا.
إذن، الآية لا تشرّع التعدد بقدر ما تحذّر من مخاطره…، هي خطاب أخلاقي يحتاط للضعيف (اليتيم)، ويُقدّم العدل على الرغبة، و”الواحدة” على الغرائز المتعددة ولهذا، فالمقصد الفلسفي للآية هو:
✦ تجنيب المجتمع الفوضى باسم الشرعية
✦ وتقديم الإنصاف على الانجراف وراء الشهوة.
ثم يعطفون عليها حديثًا شريفًا فيه: “تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم”، وكأن الأمر أشبه بمسابقة عددية لتسجيل الأرقام في دفاتر المباهاة لا في دفاتر المسؤولية.
ولكن، أيُّ فخرٍ في أن يتكاثر قوم لا يقوون على إطعام أنفسهم؟ أيُّ مباهاة في واقع تُصدَّر فيه الجهالة إلى المجتمع في شكل أطفال بلا تعليم، بلا أفق، بلا مأوى نفسي أو اجتماعي؟
هل كان الرسول –وهو الرحمة المهداة– ليفتخر بأمّة تضع الإنجاب فوق العدل، والتكاثر فوق الكرامة، والغريزة فوق العقل؟
فمن أراد أن يرفع راية الإسلام اليوم، فليخترع، فليبتكر، فليكتب، لا أن ينجب عشوائيًّا وكأن الأرحام صارت مصانع للعدد لا للحياة.
ثم هناك بعد آخر لا يقل أهمية: البيئة والبدن.
ولنتأمل المفارقة:
كان أجدادنا وآباؤنا حين مارسوا التعدد، كانوا يملكون بيئة طبيعية، طعامًا صحيًا، أعرافًا حافظة، قادرين على تحمل تعدد الزوجات جسديًا ونفسيًا، بسبب طبيعة غذائهم وحياتهم المتصلة بالأرض، ومسؤولية جماعية تتقاسم الأعباء…
أما اليوم، فإنّ التعدد يتم في بيئة حضرية مُرهقة، بأطعمة صناعية، وأدوية ملوثة، وتفكك أسري، وعزلة اجتماعية… بل نحن في جيل الوجبات السريعة والمعلبات، فلا نكاد نتحمل مسؤولية أنفسنا، فكيف بمسؤولية أربع نساء وعشرات الأطفال؟ الجسد اليوم أنهكه نمط الحياة المدنية، وأرهقته الضغوط، وما كان ميسورًا في الأمس، أصبح مهلكًا اليوم!
أليس من المثير للسخرية أن رجلاً في عصرنا يتزوج أربعًا، ويخصّص لكل واحدة يوماً، بينما لا يملك من الطاقة إلا ما لا يكفي لمواجهة متطلبات زوجة واحدة !
فمن أراد أن يُحيي سنّة التعدد في جسد مدني هش، فإنما يَدفن نفسه بيده.
لنفترض –تجريبًا– أن رجلًا تزوج أربعًا في هذا العصر، وخصص لكل واحدة يومًا من الأسبوع، كم عدد المرات التي يطلب فيها جسده أن يلبّي حاجات أربع نساء؟ أربع مرات؟ خمس؟ أكثر؟ ومن أين يأتي بتلك القدرة، وتلك العدالة، وتلك النفس الطويلة؟
ثم ماذا عن صحته؟ وقوته؟ ووقته؟
إنّ الجسد يتآكل، والقلب يتعب، والروح تنكسر، والمرأة في هذا المشهد تصبح مجرد حصة في جدول أسبوعي، لا شريكة في حياة وجدانية متبادلة.
ومن هنا نفهم لمَ تزداد ظاهرة معدلات الوفاة بين الرجال العجائز في الدول النامية مقارنة بنسائهم؛ إنها ليست أرقام مجردة ياترى، وإنما مؤشرات على الإفراط في ما لا يُطاق، والانغماس في ما لا يُجدى!
أما التذرع بحديث “تناكحوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم”، فهو فهم جزئي يُبتسر من سياقه، ويُحمّل الرسول ما لم يقله، وكأن النبي كان يريد التكاثر كيفما اتفق، دون اعتبار للظروف والعدالة والكرامة! فبماذا نباهي الأمم؟ بفقرنا؟ ببطالتنا؟ بأطفال لا يعرفون من التعليم سوى صفوف قذرة ومعلمين محبطين؟ بأي شيء نفاخر الأمم ونحن لا نملك مقعدًا نظيفًا في مدرسة ولا سريرًا شاغرًا في مشفى؟
ولو أننا أنصتنا قليلاً إلى الحيوانات، لربما تعلمنا منها حكمة التأني:
ألم نتعلم من الغراب درس دفن الميت؟ فمتى نتعلم من الحيوانات درس تنظيم النسل؟
حسب الدراسات الحديثة سلوكيات حول تنظيم نسل فطريّة لدى الحيوانات
فإنها –حين يقل الغذاء– تؤخر التزاوج، تحفظ التوازن، تحترم شروط الحياة.
أما الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل؛ فقد أسقط عنه هذا العقل، وصار ينجب بلا حساب، وكأن الخصوبة في ذاتها فضيلة لا مسؤولية.
أين الإنسانية حين يَحرم طفل من حليب الصباح لأنه وُلد في بيت لا يملك حتى الفجر كسرة خبز؟ أليس هذا الفقر الناتج عن الإنجاب العشوائي إلا عرضًا لمرض عميق اسمه: غياب الوعي الحضاري؟
إننا نعيش اليوم في مفترق طرق: إما أن نعيد تعريف مقاصدنا، ونعترف أن معركة هذا العصر هي معركة المعرفة لا الخصوبة، أو نظل نراوح مكاننا، نستعرض عدد الأبناء كما تُستعرض الأرقام في بورصات الفوضى، ثم ندفنهم في فقرهم أو نُصدّرهم إلى الشوارع والحروب والعقد.
فمعركتنا الحقيقة اليوم، هي معركة الجهل، ومعركة مع من يُنصّب الجهل فضيلة باسم الدين، ويُغلف التخلف بورق مقدّس!
وعليه؛ من أراد أن يُكاثر الأمة فليكاثرها بالكتب والامخترَعات، لا بالأرحام، بالحكمة، لا بالهوس الجنسي، ذلك هو سبيل النهضة، وما عداه فجعجعة وهلاك.