الإمام أبو الحسن الأشعري وموقف العلماء من الصراعات الفكرية (2/2)

ذ محمد جناي
آراء ومواقف
ذ محمد جناي18 مايو 2021آخر تحديث : الثلاثاء 18 مايو 2021 - 8:42 صباحًا
الإمام أبو الحسن الأشعري وموقف العلماء من الصراعات الفكرية (2/2)

ذ. محمد جناي
الإمام أبو الحسن الأشعري من العلماء الذين أثروا في الساحة العلمية والفكرية لقرون عديدة إلى زمننا اليوم ، يقول ابن عساكر :” ومحله عند فقهاء الأمصار في جميع الأقطار مشهور ، وهو بالتبريز على من عاصره من أهل صناعته في العلم مذكور موصوف بالدين والرجاحة والنبل ومعروف بشرف الأبوة والأصل “، وأتباعه هم من خيرة العلماء على اختلاف مذاهبهم الفكرية والفقهية ، حتى أصبحت الأشعرية عقيدة السواد الأعظم من الأمة ، اختارها الناس واجتمعوا عليها، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على ضلال أو خطأ، وقد ورد سؤال على ابن رشد الجد عن فضل الإمام الأشعري والأشعرية عموما ومفاده:( مايقول الفقيه القاضي الأجل الأوحد أبو الوليد وصل الله توفيقه وتسديده ونهج إلى كل صالحة طريقه، في الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وأبي إسحاق الإسفرايني، وأبي بكر البقلاني وابن فورك وأبي المعالي وأبي الوليد الباجي ونظرائهم ممن ينتعلون علم الكلام ويتكلم في أصول الديانات ويصنف للرد على الأهواء ، أهُم أئمة رشاد وهداية أم هم قادة حيرة وعناية ؟، وما تقول في قوم يسبونهم ويستنقصونهم ، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية، ويكفرونهم ويتبرأون منهم ، وينحرفون بالولاية عنهم ، ويعتقدون أنهم على ضلالة وخائضون في جهالة ؟، فماذا يقال لهم ، وهل ذلك جرحة في أديانهم ودخل في إيمانهم؟ ، وهل تجوز الصلاة وراءهم ؟، أم لا ؟ بين لنا مقدار الأئمة المذكورين ومحلهم في الدين ).

فأجاب رحمه الله بما يبين مكانتهم وقدرتهم ، ويزيل عن العيون الغشاوة، وعن العقول الأوهام التي أثارها التعصب، وأنتجها الصراع ، أوضح رحمه الله بأن هؤلاء علماء من أئمة الخير والهدى ، الذين نصروا السنة وأبطلوا الشبه، ولا يعتقد ضلالهم إلا غبي جاهل، فينبغي أن يبصر الجاهل ، ويؤدب الفاسق، وما يميز منهج الأشعري عن المعتزلة هو أنه يعتقد أن مصدر العقيدة هي الوحي : القرآن والسنة ، وماثبت عن الصحابة رضي الله عنهم ، ومايميز منهجه عن الحنابلة والمحدثين هو أنه يعتقد أن غرس العقيدة السليمة في قلوب الجيل الجديد يحتاج إلى استعمال لغة العصر العلمية ، ومناقشة المعارضين بلغتهم وأسلوبهم العقلي.

وكان الأشعري على مذهب المعتزلة ، وأخذ عن شيخه وزوج أمه أبي علي الجبائي، وقد قام المعتزلة قبل الأشعري بمهمة كبيرة في رد الشبه والضلالات التي جاءت بها الثقافة الدخيلة، وتسربت إلى أذهان المسلمين، لكن قد غلق بنفوس هؤلاء المدافعين أي المعتزلة ما لايستهان به من أمراض قلبية وشبهات عقلية ، عدت إليهم من مناظريهم، حيث كان أغلب العلماء يرون عدم الخوض فيما خاض فيه المعتزلة، وعدم مجاراة المجادلين في مجادلاتهم العقلية، والوقوف عند النصوص، وما كان عليه الصحابة والتابعين ، فوقع الخلاف بين المعتزلة وغالب علماء المسلمين من الفقهاء والمحدثين، لكن انتصرت الدولة -خلفاء بني العباس- وتبنت مذهب المعتزلة ، في زمن المأمون والمعتصم والواثق، واستمرت محنة العلماء ومنهم الإمام أحمد بن حنبل ، إلى أن جاء المتوكل فأوقف هذه المحن.

وكان إلى جانب أهل السنة والجماعة فريقان على طرفي نقيض وهما : الحشوية ، والمعتزلة ، الأولى بالغت في الإثبات إلى حد التجسيم، والثانية بالغت في التنزيه إلى حد التعطيل، لكن الوسطية والاعتدال كانت مع جمهور العلماء من الفقهاء والمحدثين لكن تأثيرهم على الواقع كان ضعيفا، فكان الناس في حاجة إلى من يقارع الحجة بالحجة مع الفريقين السابقين، وهذه الظروف هي التي مهدت لظهور الإمام الأشعري، وهذه هي طبيعة الفكر الإنساني ، لا يفرض بقوة السلطة أو المال، ولا ينتشر بالعصبية والاعوجاج في الاستدلال ، بل طريقه التحقيق العلمي الرصين الحر، البعيد عن كل محاولات التأثير ، فالميزان هو الجدل بالتي هي أحسن، يقول ابن عاشور:(( وفيما عدا ماهو معلوم من الدين بالضرورة من الاعتقادات ، فالمسلم مخير في اعتقاده ماشاء منه، إلا أنه في مراتب الصواب والخطأ، فللمسلم أن يكون سنيا سلفيا، أو أشعريا، أو ماتيريديا ، أو معتزليا،أو خارجيا ،أو زيديا، أو إماميا، وقواعد العلوم وصحة المناظرة تميز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ، والحق والباطل، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة )).

وقد تصدى لنقد المعتزلة الذين أفرطوا في استعمال العقل وإهمال النقل، والحنابلة المتشددين الذين كانوا يرفضون الخوض في مناقشة ومجادلة المخالف من الفرق الإسلامية كالمعتزلة والفلاسفة ، والاستدلال بالمقدمات العقلية في المسائل النقلية، ويعدون ذلك من الزيف والضلال، فقد كان خصما عنيدا قويا في مواجهة المعتزلة والروافض وغيرهما من الفرق الإسلامية ، واضح الحجة، ظاهر العبارة ، ترجم له الخطيب بقوله :((أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب ، والتصانيف، في الرد على الملاحدة، وغيرهم من المعتزلة، والرافضة ، والجهمية، والخوارج، وسائر أصناف البدعة ، فكان الأشعري لخبرته بأصول المعتزلة أظهر من تناقضها وفسادها ما قمع به المعتزلة ، وبما أظهره من تناقض المعتزلة والرافضة والفلاسفة ونحوهم، لكن ينبغي التنبيه إلى أن الإمام الأشعري وإن كان خصما ومعارضة قويا للمعتزلة ، إلا أنهم أساتذته الكبار ، فقد تعلم منهم قوانين الجدل والمناظر من مدرسة المعتزلة.

حاول الأشعري معالجة نكسة الصراعات الفكرية بين الفرق الإسلامية، وتدبير وتضييق اختلافاتها، من أجل تجاوز اختلافات كثيرة، والإصلاح بينها، وتجاوز حالة الصراع ، ويعتبر التكفير من أخطر المسائل التي عانى منها الفكر الإسلامي في تاريخه، وكان نتيجة للصراعات الفكرية والطائفية والسياسية التي نشأت بين الفرق والنحل الإسلامية، وساهم التكفير في الفرقة واتساع دائرة الخلاف والنزاع بين المدارس الفكرية الإسلامية ، لكن العلماء والمفكرين لم يكونوا على منوال واحد ، وعلى شاكلة واحدة من موقفهم من التكفير، والإمام الأشعري واحد من كبار العلماء الذين أسسوا للفكر الوسطي، لايكفر أحدا من أهل القبلة من مرتكبي الكبائر ، ومن إشكالات التكفير أن نصوص الوحي حذرت من كبائر الذنوب ، كترك الصلاة ، وارتكاب الزنا، وقتل النفس، والحكم بغير ما أنزل الله دونما استحلال لذلك ، فقد تفهم هذه النصوص على ظاهرها، فيقع المسلمون في تكفير بعضهم البعض، لكن ما عليه الأشعرية هو فهم النصوص على هدي غيرها من النصوص، وعدم اعتماد النص المكفر وترك الآخر الذي يجعل الأمر تحت مشيئة الله.

وقف رحمه الله موقفا وسطا بين المعتزلة المفرطة في استعمال العقل ، والحيوية المهملة للعقل، استعمل العقل والنقل ووفق بينهما، لأنه لا يمكن التعارض بينهما، إلا إذا كان النقل غير صحيح، أو كان صحيحا غير صريح ، أو كان العقل وهما وتخيلات، وقد قام الأشعرية بالتوفيق بين العقل والنقل ، وأوضحو ذلك نظريا وعمليا في كتبهم،فكان مذهبه وفكره وسطا بين الإفراط والتفريط ، لذلك اختارته الأمة واجتمعت عليه، فإن جل علماء أهل السنة على مذهبه، وحتى من يخالفه من القلة القليلة لا يخالفونه في مسائل خطيرة كبيرة، فقد كان رحمه الله تعالى سببا لاجتماع الأمة ووحدتها، فقد نجح الإمام الأشعري في معالجة الصراعات الفكرية التي فرقت الأمة.

والإمام لم يؤسس مذهبا ليقال أنه ساهم في زيادة عدد الفرق، واتساع دائرة الاختلاف بين المسلمين، بل هو أظهر اعتقاد السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ونافح عن معتقداتهم ، منطلقا من الكتاب والسنة، جامعا بين العقل والنقل بدون إفراط أو تفريط، وأن كثيرا من الخلاف قد زال بعد أن تحرر محل النزاع فيه ، واتضح للناس صواب مذهب أهل السنة بعد أن عمي عليهم زمانا على أيدي الحكام ، وما الاعتزال إلا مرحلة من مراحل الفكر الإسلامي قد انتهت تماما بعد التحقيق العلمي.

خلاصة:
مما سبق يتبين أن الإمام الأشعري رحمه الله تعالى كان همه البحث عن الحقيقة ، وحل الإشكالات التي سببت حيرته في المدة التي عاشها معتزليا، ولم يكن قصده الخلاف، ولا إثارة النزاع ولا الصراع مع المعتزلة ولا غيرهم، فقد رجع عن الاعتزال لما ظهر له بطلانه أو بطلان بعض مسائله، بدون تعصب ولا مكابرة، وكان رجوعه عن الفكر السابق بعد التأمل والمراجعة العلمية، ولما ظهرت الحقيقة جلية ظاهرة واضحة ، جهر بها على الملأ دون خوف ولا ارتياب.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.