18 أغسطس 2025 / 10:10

الإشكالية النظرية والعملية للقيادة الثنائية في الطريقة القادرية البودشيشية

محمد خياري

​أبدى الشيخ منير القادري البودشيشي موافقته على إمكانية تفويض التدبير المالي والإداري إلى أخيه معاذ أو إلى أي من أهل الثقة، مع احتفاظه بالقيادة الروحية وبسر الطريقة الذي هو جوهر الوصال. وأكد، باحترام ينبع من أعماق الطاعة وفهم راسخ لتقاليد السياسة الشرعية في المغرب الأقصى، التزامه الكامل بإمرة أمير المؤمنين، واختياراته الشريفة، سواء لصالح معاذ أو غيره من المسؤولين عن التدبير الظاهر للطريقة القادرية البودشيشية.  وأوضح أن هذا التدبير الظاهر يرتبط بذوي السند الرباني ليضمن نجاح المهمة في إطار احترام متبادل وتعاون دائم، كما أكد على بقاء جميع المؤسسات والمقدمين وأبناء شيخ الطريقة في خدمة مبادئها السرمدية، تجسيداً للوحدة والعمل المشترك الذي هو سر الوصول إلى حضرة الواحد الأحد.
​هذا الرأي الذي سنقدمه ليس تجرؤاً على المقام الذي ذهب إليه الشيخ، بل من باب المساهمة في التحليل وإغناء النقاش في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخ طريقة لها أفضال على كثير من المغاربة شعباً ووطناً. ويبقى أهل مكة أدرى بشعابها، وإن بدت لنا أشياء غابت عنا أشياء أخرى.

​أولا: الثنائية القيادية وأثرها على وحدة الطريقة

​تشكل الثنائية في القيادة خطراً جلياً على وحدة الطريقة وكينونتها الروحية، إذ تزرع بذور الفرقة في تربة الوصال، وتفتح أبواب الشقاق في جنان التوحيد. ويتمثل هذا الخطر في جوانب متعددة، أبرزها انقسام الشرعيات الذي يمزق نسيج الطريقة الواحد. فالشرعية الصوفية، التي تستمد نورها من السند الروحي المتسلسل كالسلسلة الذهبية، والإرث الإرشادي الذي هو سراج الطريق، تمثل الجوهر الذي يمنح الطريقة هويتها الروحية الباطنية، كالروح في الجسد. أما الشرعية التنظيمية، فتستمد مشروعيتها من الاعتراف المؤسساتي، وخاصة من إمارة المؤمنين التي هي السلطة الشرعية العليا في البلاد، كالشمس التي تضيء الآفاق الظاهرة. وفي هذا الانقسام، ينشأ تضارب يهدد الانسجام الذي هو أساس السالكين.
​وكما حذر الشيخ الأكبر ابن عربي، فإن “تعدد المرشدين يولد تشتت القلب”، إذ يحتاج المريد في مسيرته الروحية إلى مرجعية واحدة واضحة كالقبلة في الصلاة، لتوحيد سلوكه واتجاهه المعرفي نحو حضرة الجمال الأزلي. فالقلب السالك لا يسع إلا وجهاً واحداً، وإلا غرق في بحار الشكوك والتيه. وعبر التاريخ الشريف، حذر علماؤنا الصوفيون الأجلاء من مخاطر تعدد المراكز القيادية في الطرق، فمن ذلك قول الإمام السهروردي: “القلب لا يسع مرشدين، كما لا تسع الكعبة قبلتين”، إذ يؤدي ذلك إلى فقدان الاتجاه نحو الواحد. ورأى الشيخ ابن عطاء الله السكندري: “من تعددت مشايخه تاه عن المطلوب”، فالتيه في الطريق هو موت الروح قبل موت الجسد. واعتبر الإمام الشاطبي أن “الانشقاق في الولاية كالانشقاق في الإمامة الكبرى”، إذ يمزق أمة الروح كما يمزق أمة الجسد.
​لذا، فإن تحول توزيع المشروعيات من تكامل وظيفي إلى انفصال سلطوي يؤدي إلى تمزق الولاءات، حيث ينقسم المريدون بين شيخ الروح صاحب السند الإلهي ومركز الإدارة صاحب الصلاحية الظاهرة، فيصبحون كالأوراق المتساقطة في رياح الفرقة. كما يولد تضارباً في المرجعيات، مما قد يؤدي إلى تعارض بين القرارات الإدارية والتوجيهات التربوية، كما حدث في الطريقة التجانية خلال القرن التاسع عشر بين فاس وتمبكتو، حيث اختلت الموازين وتشتت الجهود. وأخيراً، يؤدي إلى انهيار الوحدة، عبر تحول الخلاف الوظيفي إلى انشقاق طائفي، كما وقع للطريقة الشاذلية في نهاية القرن الثامن الهجري، حيث تحولت الطريق إلى طرق متفرقة. ويرتبط هذا الخطر بما عبر عنه الإمام الجرجاني في “تعريفات الصوفية: “الطريقة لا تقبل التجزئة، فمن قسمها فقد بدعها”، إذ النموذج الشرعي المقبول هو الذي يحفظ وحدة السند الإرشادي مع توزيع المهام تحت قيادة واحدة، لا عبر تفويض الشرعية لمركزين متوازيين يتنافسان كالنجمين في سماء واحدة.


ثانيا : النموذج التكاملي للقيادة في عهد الشيخ جمال القادري
​في عهد الشيخ جمال القادري تم تقسيم الأدوار بشكل متكامل وواضح كالنجوم في كوكبة واحدة، حيث احتفظ الشيخ بالقيادة الروحية التي هي جوهر العملية التصوفية، سراجاً يهدي السالكين. أما الشؤون الخارجية، فقد تولاها الشيخ منير البودشيشي، مجسداً وجه الزاوية في التواصل مع المؤسسات الدينية والدولية، كالريح التي تحمل عطر الورد إلى الآفاق. والإدارة المادية، تكفل بها سيدي معاذ البودشيشي، مسؤولاً عن التدبير المالي واللوجستي كدعم ظاهري للعمل الروحي، كالأرض التي تحمل الشجرة الوارفة.  هذا النموذج التشاركي كان قائماً على الكفاءات والتكامل، مع احتفاظ القيادة الروحية بسندها الإرشادي الكامل، وضمان وحدة الطريقة بروح التعاون والتفاهم الذي هو سر الوصول إلى المقامات العليا.
​فليس هناك شرعية تتفوق على شرعية السند الروحي والإرث الصوفي المقدس الذي يملكه صاحب البيعة الصغرى، كالنور الذي ينبع من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كما لا يمكن تعويض الشرعية القانونية التي تستمد من أمير المؤمنين، الحامل للبيعة الكبرى بمشروعيتها النبوية، إذ هي الدرع الذي يحمي الطريقة من عواصف الزمان. إن تأسيس ثنائية قيادة بمرجعيتين شرعيتين مختلفتين قد يؤدي حتماً إلى انقسام الطريقة إلى قسمين، مما يهدد وحدة المريدين ويشتت ولاءهم الذي يجب أن يكون لشيخ واحد يحمل الشرعية الكبرى والصغرى معاً، كالقلب الذي ينبض بإيقاع واحد. فالروح الصوفية تتطلب قيادة واحدة موحدة تجمع بين الجانب الروحي والإداري لتحقيق الانسجام والاستمرارية، مع إمكانية التكامل والتفاهم شريطة أن يكون الإداري والمالي مستمداً شرعيته من الروحي التربوي، كالفرع الذي يغتذي من الجذر الأصيل.