سعيد جعفر
جلالة الملك من عين بشكل حصري لجنة صياغة النموذج التنموي، لم تكن هناك توافقات وتمثيليات وترضيات كما حدث في لجان عمل أخرى.
هذه المرة الأمور مختلفة وثمة رهان وأفق سيتبينان مع خلاصات وتوصيات التقرير النهائي للجنة الذي طلب الملك أن يكون موضوعيا وحتى مؤلما.
تتبعت من موقعي كباحث في المسألة الدينية والتحولات المجتمعية وما تتضمنه من رأسمال لامادي حجم حضور المجتمع والدين واللامادي ضمن هندسة اللجنة وتركيبتها.
قد أقول دون تردد أن ثمة وعي مركزي بالموازنة بين التحديث والحداثة، بين العلمي والتقني من جهة والفكري من جهة أخرى.
هذا تحول في طريقة تفكير الدولة نفسها وتصورها لطبيعة المجتمع والفرد على الأقل في عشر سنوات القادمة. يبدو أن الدولة تتحرر من إطارات تفكيرها التقليدية خصوصا تلك الفقهية والدينية. لأول مرة لا يحضر الفقه السني التقليدي ممثلا في العلماء وبدلا عنه تحضر قراءة عقلانية للدين. هذا ليس سهلا وليس عاديا، قد يكون هذا حلقة جديدة في التجديد الديني التي انطلقت منذ 2003.
منذ تعيين اللجنة تتبعت الأسماء التي تمثل الدين والمجتمع واللامادي، بعضها قرأت له عشرات الكتب والمقالات وحضرت ندواته كمحمد الطوزي و حسن رشيق وفؤاد العروي ورشيد بن الزين، وبعضها أسمع به لأول مرة.
بعد التعيين عدت بقوة لتتبع مسارات رشيد بن الزين من جديد ومسارات نرجس هلال وأحمد بونفور، الثلاثة يمثلون طريقة مختلفة وجديدة للدين والمجتمع والقيم واللامادي، وهذا ما يشكل مصدر ارتياح حول مقاربات الدولة الجديدة.
لفهم أوضح للأمر لا بد من تصور ماذا يريد الملك أمير المؤمنين من خبرة أستاذ للثيولوجيا البروتستانتية وأستاذ للاهوت الكاثوليكي وباحث ينادي بقراءة عقلانية للإسلام على قاعدة الرجوع للسياق التاريخي للإسلام وللقرآن وعلى قاعدة ما ينفع الناس اليوم.
رشيد بن الزين يمثل الوجه الجديد لقراءة الدين اليوم، وهي القراءة التي من أجلها قتل فرج فودة وحورب الجابري ومحمد شحرور والطيب التيزيني وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وآخرين.
هذا يعني أن الدولة اليوم ماضية في فهم جديد للدين على قاعدة ما يحدث في المجتمع وليس ما حدث في التاريخ، هذا تحديدا ما نادى به أول درس حسني هذه السنة وهذا ما يشكل صلب خطط التجديد الديني بالمملكة منذ 2003-2004.
لفهم أوضح لا بد من فهم ماذا يريد الملك أمير المؤمنين من خبرة أستاذة بجامعة جنيف الدولية متخصصة في قضايا الذكاء الاصطناعي وتطوير قدرات النساء ولها كتب في الموضوع.
وماذا يريد الملك من أستاذ الكرسي الأوروبي للتدبير اللامادي بجامعة باريس بفرنسا.
وماذا يريد الملك من خبرة الطوزي ورشيق في فهم دينامية المجتمع وهندسته الفيزيائية والمادية.
وماذا يريد الملك من خبرات فريدة بليزيد وفؤاد العروي وادريس اكسيكس في السينما والثقافة والأدب.
إن الرابط بين هذه الأسماء هو تكامل تخصصاتها وحقول اشتغالها، والمهم هو المقاربة الجديدة للدولة في الموازنة المبدعة بين التقني والاقتصادي المحض وبين الثقافي و الديني العقلاني. هذه مقاربة شبيهة بخطط التنمية وبالخطط الثقافية التي نهجتها الدول النامية في شرق آسيا وفي أوربا الشرقية في بداية السبعينيات والثمانينيات والتي عرفت باسم الثورة الثقافية، والتي نجحت في تحديث وعقلنة بنى التفكير وتحررها من الضوابط الفقهية والدينية التقليدية.
إن واحدة من الخلاصات والتوصيات التي سيتضمنها التقرير النهائي للجنة سيكون هو ضرورة تحديث الوعي وضرورة فهم المجتمع.
إن هذه الخلاصة ستكون مهمة وحاسمة، ليس فقط في توجيه الرأي العام مستقبلا، ولكن أيضا في تأطير طريقة تفكير الدولة ومؤسساتها.
إن ما أستنتجه بعد مدة من تعيين اللجنة وبعد تتبع دقيق لمسارات المجتمع والدين والقيم داخلها، هو أننا سنكون أمام مرحلة جديدة في تدبير الممكنات وأن توجهات الدولة ستكون نسبيا متغيرة بالنسبة على الأقل لعشرين سنة الماضية.
إن الدولة المغربية في شخص ملك البلاد تقوم منذ حوالي عشرين سنة باختيارات تحديثية ظاهرة تهم أساسا البنيات التحتية ( طرق سيارة، قطار فائق السرعة، كهربة العالم القروي، منشآت رياضية عالية الجودة، موانئ..) والاقتصاد (التوجه للصناعة والسياحة والخدمات والفلاحة الموجهة للتصدير والاستثمار في إفريقيا)،
و حتى لا تتكرر الصعوبات التي وقعت فيها دول كثيرة راهنت على التحديث الاقتصادي والتقني دون التحديث الفكري، فإن المملكة منذ مدة تتفادى هذا السيناريو المكلف عبر محاولات جادة للتحديث الفكري والثقافي منذ انطلاق أوراش التجديد الديني وتجديد المقررات الدراسية وتقنين ومأسسة الوقف وتجديد التعليم العتيق.
والحال أن صياغة نموذج تنموي عبر الاستفادة من خبرات القراءة العقلانية للدين وعبر فهم فيزياء ومادية ودينامية المجتمع وعبر الاستثمار في اللامادي وإدارة اللاملموس، هو خطوة جبارة في الموازنة بين التحديث التقني والسياسي والتحديث الفكري والعلمي العقلي.
إن السؤال الذي سيستمر في طرح نفسه هو متى سيكون هناك حظ إضافي للتحديث السياسي بما سيعزز ضمانات التحديث التقني والفكري.
إنه من المفهوم تأخير التحديث السياسي وأسبقية التنمية لربح الاستقرار وربح الفرص الاقتصادية والتنموية التي توفرها الظروف الدولية الحالية، والمؤكد أن رهان التحديث السياسي سيتحقق بعد إغلاق هذا القوس الإيديولوحي غير المشجع على المبادرة السياسية الإيجابية والذي انفتح منذ 2011.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6068