في قلب الفكر السنغالي الحديث، يقف سليمان بشير ديان شامخا كأحد أبرز الفلاسفة المسلمين المعاصرين، يجمع بين أصالة التراث وجرأة الحداثة، مستكشفا المساحات المشتركة بين الإسلام والفكر الفلسفي. وكان أكاديميا يقيم بين الكتب، وظل على الدوام فاعلا في الساحة الفكرية والسياسية، مستشارا للرئيس عبدو ضيوف، ومحاضرا في جامعة كولومبيا، حيث يواصل بث أفكاره عن ضرورة تجديد الرؤية الإسلامية بما يتلاءم مع روح العصر.
وفي عالم بات الإسلام فيه عنوانا ملتبسا بين التسامح والتطرف، يتصدى “ديان” لهذا اللبس العميق، مفككا التصورات السائدة التي جعلت من الإسلام مفهوما أحاديا مغلقا، ويؤكد أن المشكلة ليست في جوهر الإسلام، بل في القراءات التي وُظفت لخدمة أيديولوجيات معينة.
ويبرز هذا بوضوح في كتابه “كيف يمكن أن نتفلسف في أرض الإسلام؟”، حيث يرد على الافتراضات الغربية التي تربط الإسلام حتما بالأصولية، مدافعا عن فكرة أن التمسك بالإسلام لا يعني بالضرورة الوقوع في براثن التطرف، شريطة أن يكون التمسك قائما على فهم متفتح ومنفتح، لكنه يذهب أبعد من ذلك، ليكشف عن الصراع الأزلي بين تيارين متضادين داخل التاريخ الإسلامي: تيار العقل والتنوير الذي مثله المعتزلة والفلاسفة الكبار، وتيار الجمود والانغلاق الذي أعاق مسيرة النهضة، إنه الصراع الذي تجلى عبر العصور في المقارنة بين الغزالي وابن رشد، بين ابن تيمية وابن عربي، بين الانغلاق والانفتاح، بين التكفير والتفكير.
ويرى ديان أن أحد تجليات هذا الصراع هو التأويلات المتشددة التي حولت النصوص الدينية إلى أدوات للفرز والتصنيف والإقصاء، زيأخذ مثالا على ذلك تفسير سورة الفاتحة، حيث فُهمت الآية “غير المغضوب عليهم ولا الضالين” على أنها إشارة إلى اليهود والمسيحيين، وهو تأويل طائفي ضيق يخالف جوهر الرسالة الإسلامية. وفي المقابل، يقدم “ديان” قراءة أكثر رحابة، معتبرا أن الآية تشير إلى كل من انحرف عن طريق الاستقامة، بغض النظر عن انتمائه الديني، إذ لا يقاس الإنسان بمعتقده، بل بسلوكه وأخلاقه، وبهذا الفهم، يتكشف الإسلام في صورته الحقيقية: دين يخاطب الإنسانية جمعاء، لا جماعة بعينها، دين يدعو إلى القسطاس المستقيم والعدالة المطلقة، لا إلى التعصب والانغلاق.
لكنه يدرك أن هذا الفهم الناضج للإسلام ما زال بعيدا عن الهيمنة، وأن تيار التطرف، رغم تهافته، لا يزال يملك نفوذا في الشارع، وهنا، يلمح “ديان” إلى مفارقة التاريخ: فشل المشروع الأصولي ليس لأن الغرب يعارضه، ولا لأن القوى العظمى تتآمر عليه، بل لأنه ببساطة يسير ضد حركة الزمن. لقد أعاق هذا المشروع الإسلام عن الدخول في العصر الحديث، جعل الفلسفة تطارد باسم الدين، وزرع القطيعة بين الإسلام والفكر الحر، وفي المقابل، نجح اليهود والمسيحيون في تجاوز هذه العقبة، إذ خاضوا معركة التنوير وانتصروا فيها، بينما لا يزال المسلمون مترددين عند العتبة، لم يعبروا بعد إلى الضفة الأخرى حيث يتصالح العقل مع الإيمان، وحيث ينكشف الدين في أفقه الرحب لا في زواياه الضيقة.
غير أن “ديان” يصر على أن المسلمين ليسوا محكومين بالبقاء في هذا التيه، فهم على أبواب تحول تاريخي كبير، وما ينقصهم هو تلك “الرجة الفكرية” التي عاشها الغرب مع عصر الأنوار، إنها اللحظة التي يجب أن يدركوا فيها أن الفلسفة ليست عدوا للدين، بل شريكة له في البحث عن الحقيقة. لم يكن ابن رشد، ولا موسى بن ميمون، ولا توما الأكويني ضد الإيمان، بل سعوا جميعا إلى التوفيق بين العقل والنقل، بين الحكمة والشريعة، هذه المصالحة لم تكن ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية، وهي التي مهدت لانطلاق الحداثة الأوروبية، حيث لم يعد ينظر إلى الفلسفة باعتبارها خصما للوحي، بل باعتبارها أداة لفهم أعمق وأكثر نضجا للدين.
لكن، لماذا بقي العالم الإسلامي متوجسا من الفلسفة، بينما تجاوزها العالم الغربي منذ قرون؟
يجيب “ديان” ببساطة: لأن التنوير لم يتحقق بعد في ديار الإسلام، زلم تمر مجتمعاتنا بعملية الغربلة الفكرية الكبرى التي تفصل الغث عن السمين، وتعيد قراءة التراث بعين نقدية، لا بعين التقديس الأعمى، ولهذا، لا تزال الأسئلة الكبرى عالقة بلا إجابة، لا يزال فكر الغزالي يهيمن على العقول أكثر من فكر ابن رشد، لا يزال الحذر من الفلسفة أقوى من الرغبة في استكشافها.
ربما، كما يرى “ديان”، المشكلة تعود إلى عمق تاريخي أبعد، إلى اللحظة التي استقبلت فيها الأديان الإبراهيمية الفلسفة اليونانية بريبة وشك، باعتبارها “وثنية” لا تتوافق مع الوحي، وهنا تكمن جذور التوجس من الفكر الحر، ذلك التوجس الذي استمر قرونا داخل التقليد الديني، لكن الفرق أن اليهودية والمسيحية في أوروبا استطاعتا تجاوز هذه المرحلة، بينما بقي الإسلام، في أغلب قراءاته السائدة، عالقا عندها، وهذا ما يجعل الجدل حول العلاقة بين الدين والفلسفة في العالم الإسلامي أشد تعقيدا من نظيره في الغرب.
ولا غرابة إذا أن يكفر الفلاسفة في تاريخنا، بدء من الكندي والفارابي وابن سينا، وصولا إلى المفكرين المعاصرين الذين يحاولون إعادة فتح الأبواب المغلقة، وليست الفلسفة هي الخطر الحقيقي، بل ذهنية التكفير والإقصاء، كما قال كانط: “حيث ينتهي العقل، يبدأ الإيمان”، ولكن عندما يلغى العقل تماما، يتحول الإيمان إلى أداة بيد الجهلة والمتعصبين، ويصبح الدين وقودا للانغلاق بدل أن يكون منارة للإنسانية.
وبالتالي يقف “ديان” بين تراث إسلامي غني، يحوي في طياته بذور التنوير، وبين واقع إسلامي مأزوم، يرزح تحت أثقال التقليد والانغلاق، لكنه مع ذلك متفائل، يرى أن اللحظة الحاسمة تقترب، لحظة المواجهة بين الإسلام التنويري والإسلام الانغلاقي، لحظة العبور إلى عصر جديد تتصالح فيه الفلسفة مع الدين، ويعود الإسلام إلى دوره الحضاري، لا كخطر يخشى منه، بل كرحمة للعالمين.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23089