لنقلها بكل وضوح: ما يحدث في الشارع المغربي هذه الأيام ليس تضامنا موحدا مع فلسطين بقدر ما هو صراع مفتوح بين “فصائل إسلامية” متنازعة على من يحتكر حق “التمثيل الرمزي” للقضية.
إنها “حرب شوارع” ناعمة، لكن بلا هوادة، بين جماعة العدل والإحسان من جهة، وحزب العدالة والتنمية وذراعه الدعوي حركة التوحيد والإصلاح والمنظمات الموازية، من جهة أخرى، تخاض فيها المعركة بوسائل التعبئة، والبلاغات، والدعوات المضادة للمسيرات، فأين غزة وفلسطين من كل هذا؟
لقد رفضت جماعة العدل والإحسان، التي تقود فعليا الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، بشدة مشاركة خصومها الإسلاميين في مسيرة طنجة، معتبرة أن من وقع على اتفاقية “أبراهام” لا يمكنه اليوم أن يتصدر صفوف التنديد.
ومن هنا، كان الرد بالدعوة إلى مسيرة 6 أبريل بالرباط، والتي وإن رفعت فيها رايات فلسطين، فقد كانت في حقيقتها استعراضا منضبطا لعضلات الجماعة، ومناسبة لترميم التحالف مع ما تبقى من اليسار الراديكالي، وبعض الأصوات الصادقة في مناصرتها لغزة.
وفي الجهة المقابلة، لم يتأخر الرد، إذ أعلنت حركة التوحيد والإصلاح، ومن يدور في فلكها السياسي والتنظيمي، مسيرة موازية يوم 13 أبريل القادم، يراد لها أن تكون “مليونية”، وفي خلفية التعبئة المتواصلة لهذه المسيرة، لا يخفى هاجس استعادة الشرعية الرمزية، والعودة إلى دائرة الفعل الجماهيري بعد سنوات من التآكل التنظيمي والسياسي.
إننا أمام مشهد مقلق، لا لأن التعدد في الأصوات مرفوض، بل لأن القضية، بدل أن تكون “خيمة جامعة”، تحولت إلى خندق لكل طرف، ومنصة لإقصاء الآخر، فكل مسيرة هنا لا تقاس بصدقها أو بنبل دوافعها، بل بما تحققه من مكاسب في “بورصة” الشرعية النضالية، ومن مساحات جديدة على رقعة النفوذ داخل المجتمع.
لنقلها بكل صراحة: هذه المزايدات التنظيمية ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر ابتذالا، لأنها تتغذى من واقع حزبي مأزوم، وشارع متعب، وأزمة اقتصادية، وقضية فقدت رمزيتها الجماعية وسط “تنازع الرايات”، ففي الوقت الذي ينهار فيه الوعي العربي أمام آلة القتل في غزة، ويخبو فيه الصوت الدولي أمام مشاهد الإبادة، يجد المغاربة أنفسهم منقسمين حول من له الحق في رفع العلم الفلسطيني وإحراق راية اسرائيل والتهجم على الآخرين في ساحات الشوراع.
إن ما يجري اليوم لا يعبر عن لحظة تضامن وطني، بل عن أزمة قيادة، وأزمة فهم، وأزمة نوايا، فحين تستعمل فلسطين كأداة لتصفية الحسابات بين جماعات متناحرة، فإننا نكون قد اختزلنا القضية في لافتة حزبية، لا في معركة تحرير وعدالة وكرامة.
إن ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس “مسيرتين متنافستين”، بل مسارا موحدا، يعيد لها قدسيتها في الوجدان المغربي، بعيدا عن الأدلجة والانقسام والتسييس البائس، القضية تحتاج إلى صوت وطني واحد يحسن الإصغاء لآهات غزة بدل “ضجيج الميكروفونات”، صوت لا يخشى فقدان رصيده الحزبي حين ينتصر للحقيقة، ولا يركب “موجة الدم” حين يريد استعادة مجده الغابر..
لأجل ذلك، فإن أولى علامات الوفاء لفلسطين، أن نكف عن المتاجرة باسمها، وأن نحررها نحن، من أنفسنا، قبل أن نطالب بتحريرها من الاحتلال..
يبدو أن فلسطين تدخر لرجال لم يولدوا بعد، رجال يخرجهم الله من أصلاب قوم، حين تنضج المحنة وتكتمل شروط الاستخلاف: (وربك الغني ذو الرحمة، إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء، كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين). (الأنعام)