منتصر حمادة
هناك هوس كبير في الجهاز المفاهيمي للمشروع الإسلامي الحركي، عنوانه النطق باسم الدين، ومن يُشبه التعامل مع المشروع باعتباره المُمثل الحقيقي للدين، مقارنة مع باقي أنماط التديّن، باعتبارها مجرد تشوهات للصورة الحقيقية للدين.
يتسبب هذا الهوس المؤسَّس على منطق اعتقادي فاسد، في عدة ممارسات شاذة، من قبيل إقصاء المخالفين حتى إن كانوا ينتمون إلى نفس المرجعية الإيديولوجية، كما عاينا ذلك في عدة حالات بين حركات “الإسلام السياسي” أو الحركات الإسلامية القتالية؛ أو ذلك الإصرار على الإدلاء بمواقف دينية ما، والتعامل معها من طرف الكتائب الإلكترونية والمنابر الإعلامية، الورقية والرقمية، على أساس إنها فتاوى، بينما الأمر خِلاف ذلك.
في هذا السياق، نقرأ الرأي الصادر خلال الآونة الأخيرة عن الداعية المغربي أحمد الريسوني، ويتعلق بموضوع الفوائد البنكية على هامش تفاعل الشباب في المغرب مع مشروع ملكي يروم تشجيع المستثمرين الشباب، من خلال تسهيل الحصول على قروض بنكية بفوائد شبه رمزية.
مباشرة بعد صدور هذا الرأي، تحول موقع التواصل الاجتماعي في المغرب إلى نقاشات مفتوحة بين أتباع الحركات الإسلامية والأتباع الذين كانوا في زمن ما من المحسوبين عليها، إلى ساحة نقاشات حول الموضوع، ووصل الأمر إلى درجة التفاعل مع رأي الداعية الإخواني، باعتباره “فتوى” (كذا)، وهذه مناسبة لتوجيه إشارة جديدة إلى هذا الجهاز المفاهيمي، سواء كان صريحاً في الإعلان عن هذا الانتماء، أو كان يمارس التقية، على عادة العديد من أتباع المرجعية الإسلامية الإخوانية على الخصوص.
نقول هذا بصرف النظر عن كون الداعية الإخواني المعني هنا، هو موظف في مؤسسة دينية خليجية، تحمل اسم “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، لأن هذا الاتحاد لا يمثل إلا نفسه، وبالتالي لا يمثل المغاربة. [ليس صدفة أن موقع “هوية بريس” السلفي الوهابي، تفاعل مع رأي الداعية الإخواني، مع إشارته إلى منصبه في هذه المؤسسة الدينية المحسوبة بشكل أو بآخر على المشروع الإخواني، أو ما يُصطلح عليه “التنظيم الدولي للإخوان”، وليس هذا موضوع المقالة، وإنما أشرنا إلى هذه الجزئية، من باب التنبيه والتذكير في آن].
الإفتاء في المغرب ليس مسألة شعبوية أو مراهقة أو شيء من هذا القبيل، وإنما عملية معقدة وحساسة، تسهر عليها مؤسسة تابعة للمجلس العلمي الأعلى. وهذه المؤسسة تابعة بدورها لمؤسسة إمارة المؤمنين، بمقتضى الدستور والعرف والتاريخ. وبالتالي، إذا صدرت بعض الآراء الدينية عن فاعل سياسي أو ديني أو اقتصادي.. إلخ، بصرف النظر عن مرجعيته الإيديولوجية والمعرفية، فإنها آراء شخصية لا تلزم المغاربة، ولا تهم سوى هذا الفاعل المعني أو الذين يدافعون عن رأيه. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فمن حق كاتب هذه الكلمات مثلاً، أن يُدلي برأي ديني ما، حتى لو كان من رموز “السلفية الجهادية” أو الإخوان أو الشيعة أو الماركسية أو الليبرالية، والزعم بأن هذا الرأي يُمثل فتوى بينما الأمر خِلاف ذلك.
ومن نتائج هذا المعطى، أن المغاربة لا ينتظرون فتاوى المشرق والغرب في معرض التفاعل مع نازلة ما، خاصة أن هذه الأرض الطيبة أنجبت الصلحاء والعلماء ولم تكن أرضاً جاهلية كما تربى على ذلك الجهاز المفاهيمي لجميع هؤلاء وليس بعضهم.
صحيح أن أداء المؤسسات الدينية في المغرب اليوم متواضع، بدليل صمت أغلب الفاعلين فيها عن الخوض في هذه القضايا، إضافة إلى أن هذه المؤسسات تعج بالأسماء الإسلامية الحركية، الإخوانية والسلفية، ولكن حتى حدود اللحظة، لا زالت هذه المؤسسات تشتغل تحت وصاية مؤسسة إمارة المؤمنين، وعندما يتمكن الإسلاميون من مفاصل هذه المؤسسات ــ لأنهم يشتغلون على ذلك بشكل نوعي ــ حينها وحينها فقط، يمكن أن ننتظر منهم التحكم الديني في رقاب الرأي العام، وحينها يمكن لهم أيضاً الإعلان عن “خلافة إسلامية” في المغرب الأقصى، وتطبيق الحدود وممارسات من هذه الطينة، ولكن إلى غاية هذه المحطة التي قد تأتي وقد لا تأتي، المغاربة إجمالاً ــ باستثناء الإسلاميين وهم أقلية أساساً ــ غير معنيين بهذه الآراء الدينية الشاذة، لأنها تصدر من خارج المؤسسة الدينية المعنية والمخول لها إصدار الفتاوى الخاصة بالمغرب باعتبار المغرب دولة وطنية، وليس “دولة خلافة”.
هذا لا ينفي بأن تكون هذه الآراء الدينية مفيدة لأتباع هذه المشاريع الإسلامية الحركية، في سياق الانتصار للمراجعات، وهذه جزئية توقف عندها الداعية السلفي الجهادي سابقاً محمد عبد الوهاب رفيقي، والذي انخرط اليوم في مراجعات، عندما اعتبر في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أن رأي سي أحمد الريسوني بخصوص مشروع تيسير المقاولات لحاملي المشاريع خطوة متقدمة وصوت عاقل في سياق مكانة الرجل الاعتبارية عند تيارات وفئات داخل المجتمع” معرباً عن أمله في “أن يكون هذا الرأي باباً لفتح نقاش مقاصدي وموضوعي حول المعاملات البنكية الحديثة وعلاقتها بالمفهوم التقليدي للربا، وليس فقط اعتبار هذه القروض من باب الإحسان والقرض الحسن”، وأن “تكون هناك مبادرة لهذه الآراء والأطروحات، وليس فقط التحاقاً بقضية تطرحها الدولة، وأن تكون هذه الرؤية المقاصدية عامة وكلية، وليس قصرها على موضوع جزئي، وتغييبها في قضايا مجتمعية أخرى، بل اتخاذ مواقف متشددة تتناقض كلية مع شعارات المقاصدية والتيسير ومراعاة المتغيرات والواقع المتحرك”.
هذه جزئية لا يمكن التقزيم من أهميتها، ولكن الشاهد هنا، أن هذه المراجعات تهم أتباع هذا المشروع الإسلامي الحركي، ونتفق مع رأي رفيقي عندما تعامل مع موقف الداعية الإخواني على أساس أننا إزاء رأي أولاً وأخيراً، ولسنا إزاء فتوى، بخلاف ذلك الإصرار المتوقع لأتباع الحركات الإسلامية على التعامل مع الرأي نفسه كما لو كان فتوى. ولكن بيت القصيد هنا، وهو بيت لم تتطرق إليه تدوينة رفيقي، أي التذكير بمقتضى الإفتاء في المغرب وفي الدولة الوطنية هنا بالمنطقة، كما تطرقنا إلى ذلك في هذه المقالة: لا يصدر الإفتاء عن عمرو أو زيد، وإنما يصدر عن مؤسسة دينية ، تابعة بدورها لمؤسسة إمارة المؤمنين، ومن يرفض الإقرار بذلك، يُفيد أنه الاعتراف بشرعية مؤسسة الإفتاء وبالتالي يرفض الاعتراف بشرعية مؤسسة إمارة المؤمنين، على غرار السائد مع أتباع جماعة “العدل والإحسان” التي لا زالت تؤمن بما يُسمى “إقامة الخلافة على منهاج النبوة”.
وهذه حكاية أخرى.
Source : https://dinpresse.net/?p=6963