د. الدكتور يوسف الحزيمري
إن الحديث عن الاتقان في العمل مطلب ملح وراهني، ذلك لما نعيشه في مجتمعنا من العشوائية المفرطة في الأعمال على جميع المستويات، والتي أدت بنا إلى التذمر والشكوى من الأعمال والخدمات سواء التي تقدمها لنا الإدارات العمومية والخاصة، أو التي تقدمها المهن المقننة أو غيرها من المهن المتعددة التي يحتاجها المواطن في حياته الخاصة والعامة.
ويرتبط الحديث عن الإتقان بضرورة تخليق الحياة العامة ومحاربة الغش والخداع والرشوة والمحسوبية باعتبارها أمراضا تنخر جسم المجتمع من جهة، وتساهم في رداءة الأعمال من جهة أخرى.
وحينما نتحدث عن الاتقان – الذي يرادف الاحسان في قسم من أقسامه وهو إحسان الصنعة وإتقانها- باعتباره مطلبا شرعيا نستمد ذلك من الأوامر الإلهية والنبوية، ذلك أن الاتقان منهج للحياة التي ارتضاها الله لعباده في الأرض للاستخلاف والعمارة، وهو الملاحظ في خلق الله في السماء والأرض وفي الأنفس، فالله عز وجل أحسن وأتقن خلقه فلا ترى في مخلوقاته من تفاوت أو خلل أو اضطراب {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] وهو عز وجل: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وخلق الموت والحياة ليختبر عباده أيهم أحسن عمله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك: 2]
والإحسان فى العمل إنما يكون بإجادته، وإتقان صنعته، مع البعد عن التزوير والغش، قال رسول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (إِنَّ الله يُحِبُ إذا عَمِل أحَدُكُم عَمَلا أنْ يُتْقِنَه)[1]والإتقان إحسان الصنع.
فينبغي لمن صنع شيئا أن يكمله؛ لقوله تعالى: {أن اعمل سابغات}، ولا ينقص منه شيئا، وينبغي لمن صنع شيئا أن يتقنه؛ لقوله تعالى: {وقدر في السرد} أي: إكمالا وإتقانا[2].
وقال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} والإحسان هو الإتقان في العمل، وهو يقتضى إعطاء كل ذي حق حقه[3]. فيحب الله من الإنسان أن يتقن عمله، سواء كان عملاً دينياً أو دنيوياً ينبني عليه تحصيل رزق أو غيره.
والآيات والأحاديث في التأطير الشرعي للإتقان في العمل كثيرة جدا، وفيما ذكر الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إن الاتقان دلالة على التقدم الحضاري في كل أمة من الأمم، “ولكن هل يكفي الإتقان في العمل والمهارة في أدائه لبناء حضارة حقيقية؟
الإجابة الصحيحة على هذا أن ذلك بالتأكيد لا يكفي وهنا نصل إلى الشق الثاني لمعنى الإحسان في العمل وهو التوجه بالعمل إلى الله عز وجل، فالعمل عبادة والإحسان في العمل مرتبط بمفهوم الإحسان في التصور الإسلامي الذي هو المرتبة العليا من مراتب الدين وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”[4].
والاتقان من الأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين، وأيضا تعود بالنفع على المرء ذاته، يقول الإمام الشعراوي رحمه الله: “حين تعدي وتنقل موهبتك إلى الناس، تكون أنت الأكثر كسباً؛ لأن الجميع يعدون وينقلون مواهبهم إليك. وإذا أتقنت صنعك للناس فالصنعة التي في يدك واحدة، وعندما تتقنها فإن الله يسلط جنود الخواطر على كل من يصنع لك شيئاً أن يتقنه، كما أتقنْت أنت لسواك”[5].
ويدخل الإتقان في العمل في مسمى “العمل الصالح”، ذلك أن “العمل الصالح غير قاصر على العبادات فحسب؛ بل يشمل سائر الأعمال والمصنوعات التي يعهد بعملها إلى الناس…وما من شك أن الأعمال الصالحة المتقنة: ترفع صاحبها عند الله وعند الناس؛ فيزداد بها علواً ورفعة”[6]
ومتى اعتبر العامل في عمله أنه في عبادة كان ذلك أدعى لإحكام العمل وإثقانه،”فالمفهوم العام للعبادة له آثار إيجابية على سلوك الناس، ومن أبرز هذه الآثار: أن الإنسان العاقل عندما يقدم على عمل ويعتبره عبادة فإنه سيؤديه على أحسن وجه لأنه يرجو ثوابه عند الله على مقدار إخلاصه وصدقه في أدائه، سواء كان يؤدي حرفة أو تعليماً أو أداء وظيفة إدارية، أو يقدم بحثاً علمياً فإنه في عبادة وبالتالي سيبذل أقصى ما يستطيع من جهد، لأن في حسه أنه يؤدي عبادة والله مطلع عليه”[7].
إن استحضار مراقبة الله عز وجل، والاعتقاد في أن العمل عبادة يثاب المرء عليها، وحب المرء للعمل الذي بين يديه سواء كان دينيا أو دنيويا كل ذلك من شأنه أن يكون دافعا إلى إتقان العمل لأن “من أعجب بعمل حرص أن يتمه، ومن رأى ثوابه أحب أن يتقنه”[8]
ـــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 ـ أخرجه أبو يعلى (4386)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (5312 – 5314)، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع” (1880) وانظر تخريجه في “الصحيحة” (1113).
2 ـ تفسير العثيمين – سبأ (ص: 95)
3 ـ التفسير الواضح (2/ 849)
4 ـ مجلة جامعة أم القرى 19 – 24 (6/ 287)
5 ـ تفسير الشعراوي (2/ 1224)
6 ـ أوضح التفاسير (1/ 530)
7 ـ الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية (1/ 254)
8 ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 290)