ذ. محمد جناي
يعد الإبداع ظاهرة إنسانية، وبمثابة الأمل الأكبر للجنس البشري لحل الكثير من الصعوبات و المشكلات التي تواجهه، لذا فإن مستقبل دول العالم وبالأخص الدول السائرة في طور النمو، لا يجب أن تعتمد على مجرد توافر كوادر بشرية ، بل عليها الاعتماد على موارد بشرية مؤهلة ولها القابلية لتطوير كفاياتها و في مختلف المجالات ، فالفرد المبدع يعتبر ثورة تفوق الثورة المادية، بل إن الاستثمار في تطوير العنصر البشري يعتبر أنجح مصادر الاستثمار، لذلك فإن اتجاه المنظمات نحو الاهتمام بالإبداع لا ينبغي أن يقتصر على إدخال الأدوات والتقنيات المتطورة ، بل لابد أن يشمل إحداث تغييرات فعلية في توجهات وسلوكيات العاملين، ومن الطبيعي أن يكون للقائد الإداري الذي يشغل مناصب المسؤولية السبق في تمثل السلوكيات والتوجهات المطلوبة ، كونها أكثر المتغيرات أهمية في تدبير وقيادة شؤون المنظمات.
وبالطبع فالإبداع والابتكار من أكثر الموضوعات حداثة وأهمية في مجال التدبير الإداري، وهذا ما دفع الإداريين إلى الاهتمام به وتشجيع العاملين وحثهم عليه، إذ أصبح في مقدمة الأهداف التي يسعى العديد من المنظمات إلى تحقيقها، والإبداع يدعم قوة أية منظمة في تميزها عن المنظمات الأخرى، والمنظمات المبدعة هي وحدها القادرة على تحقيق النجاح، مما يتطلب من الإدارة العليا جهودا مكثفة من أجل تعزيز العمليات الإبداعية، التي تبدأ عادة من الداخل.
فالمنظمات على اختلاف أنواعها وأحجامها ومهامها، تواجه تحديا مشتركا يتمثل في حاجتها للرفع من مستوى أدائها حتى يتسنى لها مسايرة متطلبات التغير السريعة،ومن هنا تبرز أهمية التلازم بين قيادة التغيير والإبداع المؤسساتي، تحقيقا لاستجابات راهنة لمواجهة التحديات التي يبرزها التغيير في مجالات التنمية والتطور الحضاري.
حيث أصبح الإبداع الإداري أحد أهم المكونات الإدارية الأساسية للمنظمات، واتجه الكثير من المنظمات إلى تأسيس أقسام خاصة للإبداع والابتكار، مهمتها وضع الحلول الإبداعية للمشكلات التي تعاني منها المنظمة، بل واستشعار المشكلات قبل وقوعها ومعالجتها بدلًا من مواجهتها بعد وقوعها، وظهر مؤخرًا ما يُطلق عليه «المنظمة الإبداعية» وهي التي تتخذ من الإبداع عمادًا لها، واتجهت إليه بشكل كلي في كافة أنشطتها.
إن الإبداع كمهارة خاصة تمكن القائد الإداري من مواجهة التحديات المختلفة وإدارة الأزمات وتحويلها إلى فرص، فالقدرة على الإبداع من أهم المتطلبات الواجب توفرها فيمن يتحمل مسؤولية القيام بالعمل الإداري بل لقد عد ” إرنيست ديل Ernest Dale ” الإبداع إحدى الوظائف الرئيسية للإداري، وتتعاظم حاجته لهذه المهارة وخصوصا أن مهمته اليوم لم تعد تتمثل في انتظار حدوث المشكلات، فالإدارة الفعالة والمؤثرة هي التي تتوقع مايمكن أن يحدث وتفكر وتبدع في كيفية تلافي المشكلات ، بدلا من مواجهتها بعد وقوعها.
حيث تمثل بيئات العمل مصدرا من مصادر معوقات الإبداع التنظيمي وخاصة في البيئات التي لا يتوفر فيها المناخ والظروف التنظيمية الملائمة للإبداع حيث نجد الكثير من المنظمات تفتقر إلى عدم وجود قنوات اتصال جيدة بين الأفراد مما يحد من انسياب المعلومات فيما بينهم بالشكل السليم لحل المشكلات وكذلك عدم قدرة الإدارة على إدراك قدرات وإمكانيات الأفراد واستثمارها الاستثمار الأمثل في حل المشكلات وقد يعزى ذلك لعدم ثقة الإدارة بالعاملين.
لذا فإن على المنظمات ضرورة أن تتبنى العديد من الآليات التي يمكن أن تعزز الإبداع، بحيث تكون قادرة على جني ثمار المواهب الإبداعية عند العاملين فيها، وبغض النظر عن مستوايتهم أو أنشطتهم الإدارية ومن هذه الآليات مايلي:
* التحفيز (ماديا ومعنويا)؛
* جدولة الأولويات (برمجة الإبداعات القابلة للتطبيق وفق نظام زمني خاص بالتنفيذ)؛
* الموازنة بين التكييف وحرية العمل أي خلق حالة من التوازن بين حرية العمل والقوانين التي تعمل من خلالها المنظمة؛
* تقوية الانتماء الروحي للمنظمة لديه؛
*تشجيع عقليته في التعامل مع الأزمات من خلال مكافأته ماديا ومعنويا؛
* تعليمه الانفتاح على الرأي الآخر؛
*البعد الإنساني في التعامل مع الأفراد المبدعين وغيرهم.
والحقيقة أن مفهوم الإبداع الإداري ينطلق من المفهوم العام للإبداع ذاته، فهو يُعنى بالتجديد والتغيير والابتكار وحل المشكلات بطريقة غير تقليدية، ولذلك أصبحت مهارة الإبداع من أهم المهارات التي يجب أن يتمتع بها الإداريون بشكل خاص والعاملون في كافة قطاعات المنظمات بشكل عام، لكن مهمة الإداري الإبداعي تكمن في دوره الريادي في إدارة الأزمات وتحويلها إلى فرص وحل المشكلات بطرق ابتكارية، بل وخلق روح الإبداع في الفريق بأكمله، وقد اعتبر «إرنيست ديل» أن الإبداع أحد الوظائف الرئيسية للقائد الإداري.
وقد أجمع الكثير من الخبراء في الإدارة على أن الإبداع الإداري رغم اتسامه بالتداخل والتشابك، إلا أنه يعتمد على عدد محدد من الخطوات، تبدأ بوجود مشكلة، ثم جمع المعلومات حول المشكلة، وبدء التفكير في حل المشكلة، وتصور وإنتاج عدّة حلول بديلة، ثم التحقق من الحلول بمعنى إثباتها بالتجربة العملية، لتأتي المرحلة الأخيرة وهي تنفيذ أنسب الحلول.
وهذه بعض خصائص الإداريين المبدعين:
أولا: يجب أن يتميز الإداري المبدع بالرؤية الإبداعية التي تقوم على القدرة على تصور وتخيل البدائل المتعددة للتعامل مع المشاكل الموجودة ، والقدرة على طرح الأسئلة الصحيحة، وليس من الغريب أن يصرف الفرد المبتكر وقتا أطول في تحليل المعلومات أكثر من الوقت الذي يقضيه في جمعها، وهو لا يمل من تجريب الحلول ، ولا يفقد صبره بسرعة.
ثانيا: يجب أن يتميز الإداري المبتكر بالقدرة على التعامل مع متطلبات ومقتضيات التغيير ، فالإداري المبتكر يجب أن يتحمل التعامل مع المواقف الصعبة والمشوشة، لأنها تثير في نفسه البحث عن حلول لها.
يجب أن يتميز الإداري المبتكر بالثقة بالنفس وبالآخرين لدرجة كبيرة ، والمبتكر يجب ألا يستسلم بسهولة، فالفشل شيء يتوقعه الإداري المبتكر ويجب ألا يزيده ذلك إلا عزيمة وتصميما.
ثالثا: يجب أن يتميز الإداري المبتكر بالقدرة على التكيف والتجريب والتجديد، وأن يشك بالمسائل التي يمكن أن يعتبرها عامة الأفراد على أنها مسلمات، وقد يصل المطاف به،
أن لا يؤمن بالصواب والخطأ المطلق، إذ يعتبر أن تلك أمور نسبية تعتمد على المنظور والتصور الذي ينطلق منه الإنسان.
رابعا: يجب أن يتميز الإداري المبتكر بالجرأة على إبداء الآراء وتقديم المقترحات اللازمة، لأن هذه الجرأة تنعكس على مناقشة التعليمات والأوامر الصادرة من المراجع العليا، وهي صفة لا تتوافر في الأفراد المقلدين الذين يعتمدون على ترديد المرافقات بدون تفكير واهتمام بما يمكن أن يحدث.
يجب أن يتميز الإداري المبتكر بالاستقلالية الفردية، بحيث يجب ألا تفرض عليه سلطة الغير، وألا يفرض سلطته على الآخرين، ويجب أن يبتعد عن المؤثرات والمصادر التي تؤدي إلى تثبيط الروح المعنوية للأفراد العاملين الذي يشكلون الغالبية العظمى في أي منظمة.
ومن المهم التنبيه هنا في نهاية هذا المقال إلى أن الإبداع الإداري في جوهره رحلة محفوفة بالتحدي، فالإداري المبدع يرى الأمور بشكل مختلف، ويفكر من زوايا مختلفة، ويقال إن المشكلات هي وقود الإبداع في الإدارة أي العمل تحت الضغوطات المثمرة، وهي الحافز الأول والأساسي لجعل الناس يفكرون بطرق جديدة لوضع الحلول، وعندما نجد الكثير من الإنجازات الإبداعية سيتبين لنا أنها لم تأت إلا من واقع مشكلات معقدة، وعن طريق التفكير الإبداعي وروح الابتكار تحولت تلك المشكلات إلى فرص.
وختاما، يجدر بهذه المؤسسات أن تولي العمل الإداري اهتماما كافيا وأن تقطع مع الممارسات الإدارية العقيمة التي تعتمد على الروتين القاتل والبيروقراطية الجامدة التي تشل العقول وتكبل الأيدي فيصبح الموظفون حينئذ كآلات تقوم بمجموعة من الإجراءات دون إعمال للعقل وإطلاق العنان له للتفكير بشمولية.
ـــــــــــــــ
هوامش
(1) : د. رعد الصرن ، إدارة الإبداع والابتكار ، منشورات الجامعة السورية الافتراضية، الجمهورية العربية السورية 2020.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16303