الأستاذ حسن حلحول عضو المجلس بهيئة الرباط
كل المحامين يتفقون على ان الوضع المهني جد متردي، وان هناك هجوما شرسا على المكتسبات التي راكموها بواسطة نضالاتهم التاريخية. إن المحامين كلهم رفعوا أصواتهم في هذه السنوات الأخيرة، بأن الاستحقاقات المكتسبة في الماضي تتراجع يوما عن يوم، لأن المهنة أصبحت مستهدفة، ويظهر ذلك من خلال ما نعيشه من المتابعات التي تطال بعض نقبائنا، والاعتقالات التي تطال المحامين بكثرة بسبب وبدون سبب، رغم توفر كل الضمانات.
ولقد حاول المحامون فهم هذا الواقع وتفسيره ، ولم يجدوا له إلا تفسيرا واحدا لا ثاني له وهو أن النقباء والمجالس ضعيفة ومتواضعة في مواقفها ودون مستوى في المواجهة، ولكن السؤال البنيوي والجوهري الذي لم يتم طرحه، في خضم هذه التحولات التي يعرفها الجهاز القضائي ، والتي نتأثر بها بشكل مباشر باعتبارنا الحلقة الوطيدة المرتبطة به، هل استطعنا أن نفهم التحول الذي طرأ على القضاء والمتعلق بالفصل بين السلط الذي تعداها إلى الفصل التام بين السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة وتداعياتها على المحامين؟
هل تمت مناقشة ودراسة هذا التحول في ارتباطه مع الخطر الذي سيهدد الماضي الشامخ للمحامين؟ وكيف التعامل معه؟ وهل سيتم إعادة قراءة تأريخ المكتسبات وفق التحولات الجديدة للحفاظ عليها وكيف ذلك؟ هل الأسباب في ذلك ذاتية ؟ أم موضوعية ؟ أم هما معا؟ وهل حاول المحامون تحصين المكتسبات بالانضباط الأخلاقي والقانوني؟
ان كل هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها ومشروعة ومطروحة بشدة، للرقي بمهنة المحاماة وفق النموذج القضائي الجديد، والتصورات البناءة، فعلى الجميع أن يفكر فيها بشكل هادئ وعلى النحو الذي يراها ملائمة وفق نظرية النسبية الإدراكية للتحولات البنيوية وواقع المحاماة.
يظهر من خلال الممارسة المهنية ان سلوك المحامين وتصرفاتهم ،ؤفي التفاعل والتعامل مع الواقع الجديد مازال تقليديا ومحافظا على ما كان ممارسا ومتداولا في الماضي أي بقي مقيدا بالماضي ولم يستطع التحرر من تراثه، ولم تعرف المهنة أي تطور على المستوى السلوك والممارسة، ويرجع هذا الجمود الى كون المحامين، لم يستوعبوا المرحلة الانتقالية التي يعرفها الجهاز القضائي والمجتمع المغربي بصفة خاصة والمجتمع الدولى بصفة عامة، وهذه المرحلة الانتقالية الناتجة عن الثورة الإعلامية التي أثرت بشكل أو بآخر على العقل المهني، كما ان المحامين لم يستوعبوا الصراع الخفي والباطني والمستتر، الذي يعيشه هذا الجهاز بشقيه السلطة القضائية (سلطة الحكم) ورئاسة النيابة العامة (النيابة العامة)، وهذا الصراع هو نتاج طبيعي يفرزه طبيعة المهام المنوطة لكل جهاز، وإن كان هذا الصراع ليس بجديد، إنه كان سائدا منذ القرن الماضي، عندما كانت وزارة العدل تتحكم في الجهازين، ولم يبرز بشكل جلي إلا عندما استقلت السلطة القضائية بمقتضى الدستور 2011.
ويظهر ذلك بشكل واضح في عدة تمثلات وأشكال نظامية واضحة ، ومن تجلياتها التي تمخضت عنه الانفصال التام بين السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة إداريا ونالت هذه الأخيرة استقلالا ماليا دون اخضاعها للمراقبة ، وكان هذا بداية إعلان وإعلام للصراع بين الجهازين، ويمكن القول إنه باتت هناك قطيعة ابستمولوجية بينهما، بالرغم من التداخل المعرفي والمهني الذي يربطهما، وهذا النموذج المغربي لا نجد له مثيلا حتى في الدول الديموقراطية، انفرد به النظام القضائي المغربي.
فلا وجود في العالم الرئيس الأول بمحكمة النقض هو نفسه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، كما أن الوكيل العام للملك بمحكمة النقض هو نفسه رئيس النيابة العامة، وهذا التداخل بين السلط، أصبح لدينا جهازا معقدا، فالنظام التقليدي عندما كان وزير العدل يتحكم في الجهازين ، كان أكثر نجاعة مما هو عليه الآن على الأقل كان بين الجهازين وحدة الوجود المتمثل في وحدة المحاور وهو وزير العدل.
ويظهر أيضا من خلال دراسة العقل المهني للمحاماة، أنه مازال يحاكي العقل الماضي والتراث العريق للمحامين الشرفاء والتاريخ المجيد، الذي عاشته المهنة في القرن الماضي، والذي يختلف سيكولوجيا وابستمولوجيا وسسيولوجيا مع العقل المهني الذي نعيشه في عصر الثورة الرقمية، المرسوم بالاطلاع السريع على المعلومة والتواصل السريع بين جميع مكونات المجتمع، وفي بداية رحلتنا مع حداثة العقل المهني للمحاماة، وتجديد الفكر والتصور المهني وفق ما تقتضيه الظروف الراهنة المتمثلة في التحولات الجذرية الذي يعيشها الجهاز القضائي لا على المستوى تقسيم السلطة ولا على مستوى الصراع الذي طفح على السطح والذي لم يسبق له مثيل بين الجمعيات القضائية أي بين الودادية الحسنية ونادي القضاة ، فمن خلال هذه الحركة الجوهرية وهذا التناقض الجوهري الذي يعيشه هذا الجسم المرتبط بالمحاماة والذي يتأثر بها ويتفاعل وينفعل معها، سيكون لها بالضرورة نتائجه في مدى القريب على مهنة المحاماة.
وقبل التوقف عند المحطات الرئيسية واحدة تلوى الأخرى، يحتاج الأمر التزود مبكرا ببعض التوجيهات أو الإرشادات التي تساعدنا في تحديد ما نصبو اليه ونبحث عنه، بل ما يجب أن نتوقعه عند كل محطة قبل التوقف عندها، طالت فترة التوقف تلك أم قصرت، وحتى تتخطى هذه المرحلة الانتقالية والحرجة، يجب أن تكون الانتخابات التى نحن مقبلين عليها تختلف عن سابقاتها نقيبا ومجلسا، وحتى يتحقق ما نتوخاه فإننا بحاجة مبكرة إلى ذبح بعض الأبقار المقدسة (الاعراف) وتحطيم بعض الأوثان المعهود ة(التقاليد) التي بقيت على حالتها لم تعرف أي تجديد ولم تواكب التحولات الكبرى الذي يعرفه التطور التقني الذي تأخر المحامون فيه كثيرا بالمقارنة مع شركائهم في مرفق العدالة، ومن أولوياتها رفع القدسية عن شخص النقيب دون اخلال بواجب الاحترام للمؤسسات، وهذه الخطوات التحررية لا بد منها في حقيقة الامر التحرر بما فيه الكفاية من أثقال الماضي وتصبح أكثر من موضوعية في تعاملنا مع الجديد ، حتى وإن كان موقفنا هو رفض ما تأتي به تلك المحطة أو تلك أثناء الرحلة والمسيرة المهنية..
الانتخابات المهنية محطة انتقالية
فليعلم المحامون أن تاريخ الانتكاسات التي تعيشها مهنة المحاماة هي من صنع المحامين، وذلك عندما تقلد الأستاذ مصطفى الرميد مسؤولية وزارة العدل فقام بما قام به من إجراءات تحولية جذرية على حساب المحامين دون أي اعتبار لمستقبل المهنة، وكان من نتاج ذلك عدم قدرتهم على التكيف مع التحولات الكبرى، التي يشهدها مكونات مشهد العدالة ، فبتأكيد ان اليوم ليس كالأمس ، والحاضر لن يشبه المستقبل اطلاقا. اعلم ان نظرية الحب العقلي للمحاماة المبنية على التزود والتسلح بالممارسة المهنية العقلانية لا الانفعالية والاندفاعية هو السبيل الوحيد، لتغيير العقل المهني في المستقبل من القوة إلى الفعل ، التي كانت أساس الممارسة المعتمد في الماضي لتثبيت وترسيخ الحضور الوجودي، ليصبح الآن الحضور الانطولجي للمحامين عكس السابق يتوقف على جعل الانتقال من الفعل إلى القوة ، أي الأولوية لتقييم وجودنا الفعال هو افعالنا، وأساس قوتنا هي أفعالنا الذاتية التي مناطها الفعل الحسن وما يترتب عنه من عدم ترك الاخر ان يتدخل لتقويمنا من الخارج، وأن على النقباء والمجالس الصاعدة ان يقوموا بعمل كبير ينتظرهم ويقدموا عملا كبيرا لاسترجاع أمجاد الماضي وبأس المحاماة وقوتها.
ولا يتأتى ذلك الا بخلق الخصوصية التاريخة الحداثية لمهنة المحامين تتبنى فيها التركيز على كيفية تأثير على الأنساق الفكرية وتغيير مسارها، من سياق فكري وتاريخي الذي ينطوي على حظوة ” فوق تاريخية” المبنية على النسبية الادراكية الذي عاشته المهنة إلى الواقعية التاريخية الذي يجب أن نلقنها وننقح بها الأجيال الصاعدة، فإذا كان الجهاز القضائي لا يمكن أن يسير ويؤدي مهمة العدالة المنوطة به بدون محام، فمن هنا يستمد المحام قوة مساهمته ودوره الرئيسي في تسيير المرفق العمومي ليس كموظف وانما كجزء لا يتجزأ من أسرة القضاء.
وبذلك لا يمكن ان نخرج المحامين من دائرة الصراع الذي يعيشه الآن الجهاز القضائي بشقيه فهو جزء منها، فمهما بلغ الصراع بين الفاعلين الثلاثة، سلطة الحكم وسلطة النيابة العامة وسلطة المحامين ان صح هذا التعبير من حدة وصراحة وضراوة، فإنه يمثل ذلك إعادة ترتيب الأوراق بعد أن كانت المحاماة تشكل قوة فوق كل قوة ، لذلك فإن على نقباء مجالسنا القادمة ان تستوعب ذلك وتحاول بواسطة الحوار وفصل الخطاب، وقوة الخطابة، ان تضبط نفسها ، وعلى المحامين ان يكونوا في مستوى المرحلة التي تفرض نفسها.
يجب أن لا نأسس سلوكنا على تراثنا الماضي الذي كان يؤمن أنه دائما هو المنتصر في أي معركة أو خلاف مع الآخر، فآن الأوان أن نغير فكرنا على أننا لا نحاول الانتصار في اختلافاتنا مع الآخر، فأحيانا كسب العقول بالحوار والتحاور أفضل من كسب المعركة وتخسر الحرب، لهذا فإن هذه الانتخابات التي نحن مقبلون عليها ليست كسابقاتها، يجب أن يكون فيها النقباء الذين سنختارهم وننتخبهم يتصفون بصفات تتماشى مع المرحلة، أي أن يكون محاورا محنكا عندما يحاور ويناور، وله من التكوين ما يخول له ذلك وان لا يكون مندفعا لأبسط الأسباب التي قد تؤدي إلى الاصطدام المجاني، وأن يقوموا بتأسيس فكر وعقلية جديدة للجيل الجديد من شباب المحامين، وأن يجعلوا من الماضي مرحلة من المراحل انتهى التعامل بها.
وأن الانضباط والاحترام وحماية حقوق الآخيرين هو المعيار الأساسي للتعامل في المستقبل، ومن يقول غير هذا فإنه يريد أن يعيش على الأطلال وعلى الماضي الذي أصبح متجاوزا، إنها الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها، إضافة إلى هذا ليس تراثنا حلقة زمنية مجردة من سيرورتها أو متعالية علوا عن الواقع، بنحو يمكن معه الحلقات اللاحقة ان تتقمصها وتتماهى معها، كما أنه ليس بالحلقة التى انقطعت عنا وانقطعنا عنها، إنه خبرة وتراكمات نضالية ليست بسيطة ولا هينة، ولكنه لا نتركه ان يتمكن منا حتى نخلق له اوثانا.
إن المهمة التي تنتظر نقباء المستقبل ومجالس الهيئات جد صعبة وجسيمة ، ينتظرهم الكثير للقيام بالعمل الرائع للمحامين إبان هذه المرحلة الأساسية والحساسة، فالمهمة مرتبطة بترسيخ ثقافة التغير والتجديد اسلوبا وممارسة، وابداع الحوار العقلاني ، وخلق آليات الحوار يتماشى مع المرحلة الانتقالية، وإذا لم نفلح ننتقل إلى أساليب أخرى أكثر ضغطا من الأولى حسب الأحداث التاريخية والواقعية ، وان يصدر ذلك من إطار نأمل أن يكون هو المجلس الأعلى للمحامين أو المجلس الوطني للمحامين الذي يجب ان يعمل المحامون على إخراجه إلى الوجود، يكون من معالمه الصراحة والصرامة والشدة في اتخاذ المواقف بعد فشل أي مفاوضات مفترضة مع شركاء مهنة المحاماة، بدل جمعية هيئات المحامين التي أبانت خلال هذه الفترة المهمة والمرحلة الانتقالية عن فشلها الذريع في تحديد المواقف المطلوبة بسرعة كافية لمواجهة أي تهديد محتمل للمهنة سواء على مستوى الواقع أو القانون.
هذه المقالة هي محاولة لإعادة قراءة الواقع وفق أصول التجديد وهي أرضية للنقاش..
Source : https://dinpresse.net/?p=12463