زعيم الخيرالله
نعيش هذهِ الايّامَ المُتَبَقِيَّةَ من شهرِ شعبانَ المُشّرَّفِ ، ونحنُ على مشارفِ شهرِ رمضانَ المبارك ، الذي كَرَّمَنا اللهُ تعالى فيه وجَعلَنا ضُيوفاً عندَهُ ، فهل نحنُ بمستوى هذه الضيافةِ الآلهيّةِ ؟ وهل هيأنا الاستعداداتِ التي تؤهلُنا لاستقبالِ هذا الشهرِ استقبالاً يليقُ بشرفهِ وعظمته؟ الناسُ تختلفُ في استعداداتها في استقبالِ هذا الشهر كُلٌّ حسبَ معرفتهِ.
هل نحتاج الى استعداداتٍ مَعْرِفِيَّةٍ لنكونَ مؤهلين للضيافَةِ الآلهِيَّةِ ؟ وهل مواسمُ العبادةِ ومنها شهر رمضان تحتاج الى معرفة؟
الشيء الملفتُ للنظر في العبادة ، هي انَّها تؤكِدُ على ارتباطِ الانسانِ بخالقهِ . الانسانُ العابدُ موصولٌ بخالقِهِ ، والانسانُ المتمردُ على خالقه هو ذَرَّةٌ تائهة تسبح في الكون بلا بوصلة ولاوجهة تحدد السير . الانسانُ العابدُ انسانٌ عارفٌ انَّ لهُ خالقاً ، وأَنَّ للوجودِ بدايةً.
هذهِ الحاجَةُ ( حاجةُ الارتباط) سمّاها المفكر الشهيد محمد باقر الصَّدر ( حاجةُ الارتباط بالمطلق). هذا الحضورُ القَوِيُّ للخالقِ في حياة الانسان العابد يشكل اساسايات المعرفة ، كما قال امير المؤمين عليٌّ عليه السلام: (أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ). هذا الارتباطُ الذي يتجلّى في العبادة ويتجلى في عبادة الصوم بصورة جليّةٍ واضحةٍ في وقتٍ يعيشُ الانسانُ في هذا العصرِ تحت ظلِّ فلسفاتٍ تدعوهُ الى فك الارتباط بالخالق.
نظرية (Big Bang) ( الانفجار العظيم ) من النظريات التي تؤكد على فك الارتباط بالخالق . نظرية الانفجار العظيم تفترض ان الكون كان في حالة حرارة شديدة الكثافة فتمدد بعد ان كان جزء واحداً عند نشأته . وحدثت لحظة الانفجار العظيم قبل 13.8 مليار سنة . هي نظريةٌ تفسر نشأة الكون بعوامل ماديّة ، وحرارة شديدة وكثافة عالية وتمدد وانفصال بعد ان كان الكون جزء واحداً ، دون ربط هذه الاحداث بخالقها ؛ لان العلم ليس من شأنهِ ذلك . العلمُ مجاله وحقلهُ التجربة والمختبر والحسابات والمسافات والمعادلات ؛ وليس من شأنِهِ التحدث عن ماوراء ذلك.
صحيح ان نظرية الانفجار العظيم تعزز من حجة المؤمنين بالله لانها تفترض بأنَّ للكون بدايةً.
وكذلك نظرية دارون في تفسير نشأة الحياة . النظرية تتحدث عن بدايات بسيطة للحياة بدأت بخلية حية ثم حدث تطور ، وتطورت الانواع عن انواع سابقة وفق قانون تنازع البقاء وبقاء الاصلح . النظرية تفك الارتباط بين عملية الخلق والخالق ، لانها ليس من شأنها ان تتحدث عن عوالم ماوراء المادة ، والا خرج العلم عن اختصاصه وحقله .
في الصوم تأكيد لارتباط المخلوق بخالقه . وهذا بعدٌ معرفيٌّ من ابعاد الصوم ، التي ينبغي للصائم معرفتها وهو يستقبل شهر رمضان المبارك .
مستويات الصوم
الناس لايصومون صوماً واحداً ؛ فهناك مستوياتٌ للصوم ، قسموها الى ثلاثة مستوياتٍ:
1- صوم العوام ( الصوم الفقهي): وهذا المستوى من الصوم يمارسه اغلبُ المسلمينَ ، فهُم يصومونَ عن مفظراتٍ محدودةٍ ذكرها الفقهاءُ في كتبهم الفقهيّة من طلوعِ الفجرِ الى غروبِ الشمسِ . وهذا ادنى مراتبِ الصوم.
2- صوم الخواص ( الصوم الاخلاقي): وهو اعلى مستوىً من الصوم الاول ، وهو صومُ الجوارح ، وهو : ان تصوم كل جوارح الانسان . تصوم عينُه عن الحرامِ وأُذُنُهُ عن الحرام وكلُّ جوارحه.
3-صوم خواص الخواص ( الصومُ العِرفانيُّ ): وهو اعلى مستوىً من الصومين السابقين ، فهو ليس صوماً عن المفطرات الفقهية فحسب ، وليس صوم الجوارح فقط ، وانما هو صوم عن اية فكرة محرمة او سيئة تخطر ببال الانسان . صومٌ يبتعدُ فيه الصائِمُ عن كل الخواطر الشيطانيّةِ التي تُشَوِّهُ داخلَ الانسان ونفسه.
هذه المستوياتُ من الصوم يحددها المستوى المعرفي للصائم فبقدر المعرفة يتحدد مستوى الصوم ومستوى من يصوم.
المعرفةُ المَقاصِدِيَّةُ للصوم
هناك معرفةٌ مَقاصِدِيَّةٌ للصوم لابُدَّ منها ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم ، وأقصُدُ بالمَعْرِفَةِ المقاصديّة ان نعرفَ ماذا أراد الله منّا بايجابه الصيام علينا ؟ ماهي الحِكَم ُ؟ ماهي المقاصد؟
الله تعالى حين فرضَ علينا الصيام لابد ان تكون هناك حكم واهداف ومقاصد . معرفةُ هذهِ المقاصدِ مهمةٌ جداً في استقبالِ الشَّهرِ الكَريمِ.
اغلبُ المسلمين يستقبلونَ الشهرَ بالاسرافِ في الاطعمةِ والاشربةِ ، وتتفشى لديهم في هذا الشهر النزعةُ الاستهلاكيَّةُ مما يقضي على فلسفة الصوم ومقاصده ؛ لانَّ اللهَ تعالى أرادنا أن نصوم لحكم عالية ومقاصد سامية ، ونحن جردنا الصوم من هذه الغايات والحكم والمقاصد . نحن نعوض ماصُمناه في النهار بانواع الاطعمة والاشربة . وهذا خللٌ ونقصٌ في معرفتنا المقاصدية للصوم وشهر الصيام.
المعرفة الحضورية للصوم
هناكَ مَعْرِفَةٌ حُضورِيَّةٌ في الصَّومِ لابُدَّ من الاهتمام بها ونحن نستقبل شهر الله تعالى . المعرفةُ الحصوليّةُ : هي المعرفة التي تنشأ عبر وسائط وصور ، امّا المعرفة الحضورية فهي معرفة لم تنشأ عبر صورة ؛ وانما هي معرفة وجدانيّة شهودية سببها حضور نفس المعلوم لاصورته.
لاضرب لكم مثلاً لتتضح الصورة . عندنا مريضٌ يتأَلَمُ من آلامٍ شديدةٍ في معدته يذهب الى الطبيب ويشرح له حالته . المريضُ عنده نفس الالم حاضرٌ في نفسه لاصورة الالم ، امّا الطبيب الذي شرح له المريضُ حالتَهُ فهو عنده صورة عن الالمِ لانفسَ الالم.
الله تعالى لم يُرِد ان يتحدث للمسلم عن الجوع عبر الوصايا والكلمات ؛ لان المعرفةَ عبر الكلمات معرفةٌ صوريّةٌ . المفكرون الاشتراكيون كتبوا وتحدثوا كثيراً عن جوع الفقراء ولكن هذه المعرفة التي يتلقاها الناسُ هي معرفةٌ صُوريَّةٌ . الله سبحانه وتعالى اراد ان يدخل المسلم من خلال الصيام في شهر رمضان في معرفةٍ حضوريّةٍ شهوديّةٍ وجدانيّةٍ يعيش تجربة الجوع ليعرف حضوريّاً معنى الجوع.
هناك تفاصيل أكثر في الحديث عن الابعاد المعرفيّةِ للصيام . اكتفي بهذا القدر ؛ لان هذا مايتسع له الكلام في هذا المقال المتواضع.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14135