محمد ابن الأزرق الأنجري
قال القرآن الكريم في سورة الإسراء: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
يقول فهم العاطفيين: الإفساد الإسرائيلي الثاني في الأرض المقدسة هو ما يجري منذ وعد بلفور، والآيات تقدم للفلسطينيين خاصة والمسلمين عامة وعدا وبشرى بأنهم سيهزمون دولة إسرائيل ويُذلوا وجوه اليهود ويدخلوا المسجد الأقصى ويدمروا ما صنعه الإسرائيليون من أسباب قوتهم، وذاك هو وعد الآخرة.
بغض النظر عن صحة هذا التفسير من عدمها إذ يرى المفسرون والمؤرخون المتقدمون مثل الطبري أن الإفسادين والوعدين تحققا في الماضي قبل الإسلام، فإننا مستعدون لقبول الرأي القائل بأن الإفساد الثاني هو ما يحدث في العصر الحديث وأن وعد الآخرة آت مستقبلا.
لكن الذي غفَل عنه أصحاب هذا التفسير هو أن الآيات تستبطن وعيدا للمسلمين والفلسطينيين بأن إسرائيل ستعلو وتفسد وتستولي على المسجد، فتكون المحاولات العسكرية قبل وعد الآخرة عبثا وتضييعا للأرواح والأموال وتبذيرا للجهود، يجب التوقف عنها تفاديا للخسائر دون نتائج حقيقية واستجماعا للقوة الضاربة القمينة بتحقيق وعد الآخرة، تماما كما فعلت غالب الشعوب التي تعرضت للاحتلال، إذ وضعت السلاح في النهاية واستسلمت للمحتل، فاستقرت الأوضاع بشكل أفضل، وتنفس الناس الصعداء، وحُفظت الأرواح التي كانت مشروعا للموت دون طائل، إلى أن تغيرت الأوضاع الدولية ولاحت بوادر الاستقلال فاستجمعت الشعوب قواها واستثمرت التغيرات لصالحها.
لقد واجه الخطابي وغيره الاحتلالين الفرنسي والإسباني مثلا، وقدموا مئات الآلاف من الشهداء، وعرّضوا أضعافها للتشريد والعذابات، وأسهموا بنية حسنة في تدمير مقدّرات الشعب، ثم استسلموا في النهاية استسلاما مُهينا، وتمكن الاحتلال من بسط نفوذه، واستراح المغاربة من آلام المقاومة الهزيلة في نتائجها سنوات، ثم تغيرت الموازين الدولية التي استغلها الشعب المغربي لصالح الاستقلال، فكان له ذلك، ومثله تكرر في سائر البلاد التي تم احتلالها.
كان االنظام المغربي مدركا لهول الفجوة بين قدراته العسكرية وقوة الدول المحتلة، فأذعن لشروط الحماية، وتجنب المقاومة العسكرية لأنه كان على يقين من أن نتائجها ستكون كارثية مدمرة قد تؤدي لمحو الشعب المغربي وإبادته.
وكان المندفعون والمتحمسون المؤمنون بالمقاومة المسلحة يتهمون النظام بالخيانة والعمالة لأن مفهوم الجهاد عندهم أعماهم عن حقائق الأمور، فقدموا بذلك خدمة عظيمة للاحتلال لأنهم استهدفوا النظام عسكريا ومعنويا فاضطر للاشتباك معهم، وهو ما يريده المحتل.
وكان بعض المثقفين والعلماء مقتنعين بموقف النظام مدركين لهول الكارثة القادمة، فتم تخوينهم وتكفيرهم واستهدافهم بالقتل أو الاضطهاد من قِبل المقاومين الذين كانوا يمارسون الظلم في الوقت الذين يبشرون بالحرية والاستقلال.
والقصة تكررت وتعاد باستمرار إلى عهدنا.
انظر إلى المقاومة الشيشانية كيف وضعت سلاحها بعد الدمار الهائل ومئات آلاف الشهداء والمعطوبين…
وتذكر عنجهية طالبان قبل بداية أمريكا هجومها، ثم انظر إلى جلوسها الآن مع الأمريكي للتفاوض، ولكن بعد التقتيل والتشريد والتهجير والفتن…
وابك على العراق الذي كان قوة وازدهارا، لكن صدام ركب عقله، واستهان بخصمه، فتدمر العراق تدميرا، وفي النهاية تمكن الاحتلال من بسط نفوذه…
هل يعني أننا ندعو للاستسلام من الوهلة الأولى؟
إذا كنا مدركين لحجم الفارق الهائل بيننا وبين العدو، فالعقل والحكمة والمصلحة تنادي بالاستسلام دون طلقة واحدة، والتفاوض معه لضمان الحقوق الأساسية والكرامة اللازمة، تماما كما فعل النظام المغربي بقبوله عقد الحماية مما ترك للجزء الأكبر من الشعب مجالا للتنفس والحركة.
وإن كنا غير مدركين فجربنا المقاومة لسنوات دون نتائج إلا المزيد من الأرواح والدمار… فالعقل ينادي علينا بالتنازل والتفاوض وإصمات صوت المدافع والقنابل والمتفجرات، قبل أن تُفرض علينا مذلّة الاستسلام على طريقة الأمير الخطابي رحمه الله الذي عرّض عاصمته للقصف بالكيماوي ثم استسلم للمحتل بعد الخسائر الجنونية، التي لا تغطي عليها أعداد الجنود الإسبان الهلكى في أنوال المجيدة وغيرها، فالثمن كان ذلا واستسلاما وخضوعا في الأخير، حيث غادر المقاوم وأسرته المغرب منفيا، بينما مدّ المحتل يده ورجله على كل شيء.
هل يعني هذا الاستهانة بالمقاومة والطعن في نواياها وعدم الإقرار بالشهادة لضحاياها؟
لا يخطر ببالي ذلك أبدا، فالمقاومة كانت شريفة عموما، وضحاياها شهداء، لكنها مقاومة ولدت ميتة لأن موازين القوة كانت غير متكافئة البتة.
وقد ظهر بعد عشرات السنين من المقاومة المحكوم عليها بالفشل أن موقف النظام المخزني كان صوابا، وأن الطبقة المثقفة التي كانت معه في ذلك اختارت الطريق القويم، وأن الأرواح المغربية التي أزهقتها المقاومة لأنها كانت مع المخزن في ميزان سيئاتها، فالله يغفر لها.
ماذا نريد قوله؟
لقد جرب الفلسطينيون المقاومة المسلحة فلم تحقق الاستقلال وتدمير اليهود ورميهم في البحر الأحمر أو الأبيض… وإنما حققت المزيد من الضحايا والعذابات.
الفلسطينيون يشتغلون في إسرائيل نهارا ويبيتون في الضفة الغربية أو قطاع غزة ليلا،
الرياح الدولية لصالح إسرائيل، وقوتها العسكرية جهنمية باعترافنا قبل أصدقائها، ومواجهات المقاومة البطلة الغزّية مع الكيان تنتهي بآلاف الأرواح ودمار البنى التحتية وتشديد الحصار واستجداء وقف إطلاق النار،
وإسرائيل بحسب تفسير الآيات المتقدمة موعودة بالسيطرة التامة على الأرض المقدسة والإفساد فيها،
الدول العربية بدأت تفضل خيار التطبيع الشامل تخفيفا على الفلسطينيين لأنها لا تملك لهم غير ذلك إذ إسرائيل دولة معترف بها حتى من السلطة الفلسطينية ثم هي مسنودة بالقوى الكبرى عسكريا واقتصاديا واستراتيجيا،
المقاومة المسلحة تعبانة وإن تظاهرت بين الفينة والأخرى بأنها لا تزال موجودة، فهي والغزيون في سجن كبير وحصار خانق لا تغطي عليه المكابرة.
نفضل الانخراط في مسلسل التطبيع والتفاوض السلمي في انتظار تغير الموازين الدولية لتقوم الدول العربية والإسلامية حينها بتحقيق الوعد الثاني الذي يحمل إشارات بأنه لن يكون دمويا بدليل أن الآيات لا تشير إلى تقتيل الإسرائيليين بل إساءة وجوههم بالدخول إلى المسجد وتدمير أسباب القوة والعلو.
والختم بقوله تعالى: (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ) تأكيد لكون الوعد الثاني سيتحقق دون دماء تستحق الالتفات.
طالما تعرضت فلسطين والقدس للاحتلال عبر تاريخ المسلمين، وفي كل مرة كانت الشعوب العربية والأمازيغية والمسلمة هي التي تحرر بيت المقدس وفلسطين وليس الشعب الفلسطيني الذي كان يقوم بافتكاك نفسه من الصليبيين وغيرهم.
ونرى أن الخير في المسار الذي اختارته دول التطبيع.
والزمن كشاف.
والآن، لا يتردد العاطفيون في التخوين والاتهام والتشهير براقم هذه السطور، والموعد الله.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12616