محمد ابن الأزرق الأنجري
اخْتلف الأصوليون والفقهاء فِي “الْأَمر الْمُطلق الْمُجَرّد عَن القرينة الدَّالَّة على اللُّزُوم وَعدم اللُّزُوم”، الوارد في كتاب الله أو حديث رسوله، هل يفيد الوجوب والفرضية وتأثيم التارك أم لا.
الموقف الأول: هناك من توقّف ولم يفهمه موجبا ولا نادبا ولا مبيحا، ونسبه ابن حزم في كتاب الإحكام في أصول الأحكام (3/2) (لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين).
وجعله ابن العربي المالكي في كتاب المحصول (ص: 54) كلام أهل الحق حيث قال: وَأما أهل الْحق من الْمُتَكَلِّمين فصاروا إِلَى أَن لَفظه “افْعَل” مُحْتَملَة لِلْأَمْرِ وضده وَهُوَ النَّهْي، ولخلافه، وَقد وَردت فِي الشَّرِيعَة على نَحْو من خَمْسَة عشر وَجها، فَإِذا جَاءَت مُطلقَة وَجب التَّوَقُّف فِيهَا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على تعْيين معنى من مَعَانِيهَا) إلى أن يقول في (ص: 56): وَقَالَ أهل الْحق: يتَوَقَّف فِيهِ أَو لَا يَصح دَعْوَى بِشَيْء فِيهِ.
الموقف الثاني: وهناك من قال إنه يفيد الإباحة فقط،
الموقف الثالث: وقالت طائفة: الأمر المجرد يفيد الاستحباب والندب،
الموقف الرابع: ذهب الجمهور إلى أن الأمر المطلق في آية أو حديث يوجب المأمور به ويفرضه على المسلم، فيكون عدم الممتثل للأمر عاصيا آثما، واستدلوا له بحجج تأولوها لا تقوم برهانا على ما ذهبوا إليه.
وهذا القول هو الشائع بين الفقهاء اليوم، ومن قواعدهم الذائعة:
“الأمر يفيد الوجوب إلا بقرينة”،
“الأصل في الأمر الوجوب”.
ومن أمثلة أدلتهم الضعيفة، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]
والجواب أن المسلمين إذا اختصموا وتنازعوا في قضية حقوقية، ثم حكم الله بإنزال آية تكشف صاحب الحق، وجبت الطاعة لأن الله سبحانه عدل حكيم، وكذلك إذا قضى رسوله صلى الله عليه وسلم في نزاع وجبت طاعته بصفته نبيا قاضيا لا يميل مع الهوى.
فالآية في الخصومات والقضاء، ولا علاقة لها بالأوامر المجردة المبثوثة في كتاب الله أو أحاديث رسوله.
وإن الامتثال لحكم القضاء واجب سواء كان القاضي نبيا أو رجلا من الناس الموظفين في سلك القضاء لأنه أحد عوامل انتظام المجتمع.
وهناك أدلة أخرى أضعف مما سبق.
ولو كانت حججا قوية قاطعة في الموضوع ما اختلف الفقهاء والأصوليون في حكم الأمر المطلق وإلزاميته.
لا فرق بين القرآن والحديث:
لا يفرّق الجمهور بين الأوامر القرآنية والأوامر الحديثية لأنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم مشرّعا لا رسولا فقط يبلّغ وحي الله المحصور في القرآن الكريم.
ومعلوم أن أحاديث الأوامر والنواهي سائرها آحاد ظنية الثبوت ناهيك عن تعرضها للتحريف والزيادة والنقصان بفعل الرواية بالمعنى.
ومشكلة المسلمين التصورية الفكرية تأتي من الأحاديث بالدرجة الأولى.
كثير من المسائل صيروها واجبة بالاستناد إلى أحاديث لا يجري أحد هل هي صحيحة حقا أم لا.
والمشكل أن تلك الواجبات تتعلق بأمور الدنيا أساسا من سياسة واقتصاد… مما يضيّق على الأمة ويعرقل تطورها.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمير قبائل، وقائد جيش، وقاضيا، ومرشدا اجتماعيا… فكان يأمر وينهى بتلك الصفات إلا إن تعلّق الأمر بشيء ألزمه القرآن وفرضه، فيكون مبلّغا وشارحا وللقرآن مبيّنا.
فأول ما ينبغي طرحه هو الأوامر الحديثية لأنها ظنية من جهة الثبوت، وتاريخية مؤقتة مرتبطة بزمن النبي ومجتمعه من جهة الدلالة.
بقي لنا الكلام في حكم الأوامر القرآنية.
الأوامر القرآنية الواجبة:
أولا: أوامر الاعتقاد والإيمان والتوحيد كالإيمان بوحدانية الله وبالرسل والملائكة… ذلك أنها جوهر الدين التي تفنّن القرآن في بيان وجوبها وإلزاميتها.
ثانيا: أوامر العبادات كالأمر بالصلاة المكتوبة، وصيام رمضان، وحج البيت الحرام… ذلك أنها الغاية من خلق الإنسان كما في سورة الذاريات: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».
ثالثا: أوامر الأخلاق الفاضلة التي كثرت الآيات في ذم أضدادها وتحريمها، مثل الكذب ضد الصدق، والخيانة ضد الأمانة، والظلم ضد العدل… فلم يكتف القرآن بأوامر الصدق والأمانة والعدل… بل حرّم أضدادها.
الأوامر الدنيوية:
ما تعلّق بشئون الدنيا من سياسة واقتصاد وإدارة… ثم أمر به القرآن أمرا مجرّدا مطلقا لم يأت في موضع من الكتاب ما يفيد وجوبه صراحة بصيغ الوجوب التي تحدثنا عنها في أصل سابق، فهي أوامر خاصة بمجتمع الصحابة وزمن النبوة، ذلك أن القرآن كان يسوسهم وينظمهم وفق ظروفهم ومشاكلهم ومصالحهم الآنية.
ولنا أن نأخذ بتلك الأوامر إن شابهت ظروفنا أحوالهم، وأثبتت صلاحيتها لزماننا ومجتمعاتنا، إذ أنها مندوبة أو مباحة على أقل تقدير ما دام القرآن أمر بها مجتمع المسلمين الأولين.
ويدخل في هذا النوع من الأوامر المطلقة:
أولا: العقوبات والحدود: كل الحدود القرآنية من قطع ليد السارق، وجلد للزاني أو القاذف، وإعدام للقاتل عمدا، جاء الأمر بها مطلقا مجرّدا حتى إنه لم يذكر كلا منها إلا مرة وحيدة خلافا لتكراره الأمر بشئون التوحيد والإيمان وأركان العبادات وأصول الأخلاق.
ومما يؤكد عدم وجوبها في زمن الصحابة فضلا عن زماننا، تخييره في عقوبة الزنا بين الإمساك في البيوت أو الجلد، ودعوته من طرف خفيّ حكيم أهل القتيل العفو عن القاتل عمدا والاكتفاء بالدية…
ثانيا: التوجيهات العسكرية: أمر القرآن الصحابة بقتال قوم مخصوصين في زمن مخصوص، وكان ذلك بمثابة قرار عسكري واجب الإنفاذ من قِبَل جنود الصحابة وعساكرهم، ثم لم يعد ذلك الأمر موجها لمن بعدهم، من ذلك الأمر بقتال مشركي بعض قبائل العرب أو نصارى الروم لعدوانهم المسبق، وذلك كله في سورة التوبة: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).
إن سورة التوبة نزلت عام تسعة للهجرة، وهي سنة الحسم العسكري مع القبائل والمناطق الممارسة للعدوان على المسلمين.
ثالثا: أوامر المعاملات:
إن بعض أوامر القرآن المنظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية من باب الأمر بالعرف الحميد عند العرب، فليست تشريعا خالدا ولا توقيفا يحرُم تجاوزه عند اختلاف الأعراف وتطور الثقافات.
من ذلك الأمر بكتابة الدين، وإشهاد رجلين أو رجل وامرأتين، ودفع الصداق عند الزواج، وتحديد أنصبة الميراث، واللّعان عند اتهام الزوج زوجته بالفاحشة، والإدناء من الجلابيب…
كل ذلك كان موجودا معروفا عند بعض قبائل العرب، فأمر به القرآن التزاما منه بقاعدة: (وامُر بالعرف) التي دعا إليها أكثر من مرّة وحثّ عليها.
ولنا الأخذ بتلك الأوامر/الأعراف القديمة إذا هي ناسبت أوضاعنا، ولنا تركها والاجتهاد في إبداع ما يناسب أحوالنا ومصالحنا، إذ حيثما كانت المصلحة فثمَّ شرع الله.
إنها أوامر/أعراف حميدة توجه الخطاب بها إلى مجتمع المسلمين الأوّل، لكن فقهاء العصر العتيق صيّروها دينا وتوقيفا وعبادة بل عقيدة.
الخلاصة:
إن الأمر القرآني المطلق المجرّد لا يفيد الوجوب عند جماعة من الأصوليين السنة، وهو اختيار محقّقي المالكية، فلسنا ناطقين بقول جديد إلا عند التنزيل إذ الجديد في كلامنا هو: التمييز بين الأوامر القرآنية التوقيفية الملزمة الخالدة والأوامر القرآنية المؤقتة الظرفية بطريقة لم يتعوّد عليها المتشرِّعة فإنهم يذكرون فروقا أضيق مما ذكرنا، ثم استبعاد إلزامية أي من الأوامر الحديثية التي لا تجد في القرآن تأييدا مباشرا.
والحمد لله رب العالمين
Source : https://dinpresse.net/?p=10766