الأمن الروحي كخيار استراتيجي

دينبريس
2025-02-10T10:32:50+01:00
افتتاحية
دينبريس10 فبراير 2025آخر تحديث : الإثنين 10 فبراير 2025 - 10:32 صباحًا
الأمن الروحي كخيار استراتيجي

دين بريس
يتموضع الدين كإحدى أهم الأدوات الناعمة التي تمتلكها الدول لضبط الاستقرار الاجتماعي وتوجيه الوعي الجماعي نحو القيم التي تحصن الأفراد من التهديدات الفكرية والسلوكية.

وفي عالم تزداد تعقيداته السياسية والاقتصادية والأمنية، بات الأمن الروحي ضرورة استراتيجية لا يمكن إغفالها في بناء المجتمعات، حيث تجاوز أبعاده التقليدية ليصبح عنصرا أساسيا في معادلة الأمن القومي الشاملة.

وعلى هذا الأساس، جاء لقاء الأمس الذي جمع العلماء برجال الأمن والسياسة، في خطوة تعكس تحولا عميقا في هندسة العلاقة بين الدين والدولة، من خلال إعادة صياغة دور العلماء ليكونوا فاعلين مباشرين في التواصل مع صناع القرار السياسي والأمني والاقتصادي والإعلامي.

هذه المقاربة لا تتوقف عند تأطير المجال الديني، لكنها تمتد إلى تحصين المجتمع من التهديدات التي تتجاوز الأبعاد التقليدية للتطرف أو الانحراف الفكري، إلى ما هو أخطر، وهو الاختراق الممنهج للمنظومات القيمية التي تشكل هوية الشعوب واستقرارها.

ويشكل لقاء العلماء بالوزراء والمسؤولين الأمنيين تطورا لافتا في بناء سياسات عمومية متكاملة، تعترف بأهمية الأمن الروحي في صناعة الاستقرار الوطني، فالتحديات الأمنية الحديثة تستلزم مقاربة شمولية تستهدف الوقاية الفكرية والتحصين القيمي، حيث يساهم العلماء في وضع الخطوط الحمراء التي تحافظ على استقرار المجتمع، بينما تعمل الأجهزة التنفيذية على تفعيل هذه الرؤية ضمن استراتيجيات الدولة.

إن إدراك الدولة المغربية لأهمية هذا التكامل بين العلماء والمؤسسات التنفيذية يعكس وعيا عميقا بطبيعة التهديدات التي أصبحت تستهدف المجتمعات عبر مسارات معقدة، من خلال تغلغل التطرف الفكري والانحرافات الأخلاقية وحملات التشكيك في الثوابت الدينية والوطنية داخل المجال العام.

ومن هنا، تتجلى ضرورة أن يكون للعلماء حضور مباشر في الميدان، ليس فقط من خلال المساجد، وإنما عبر كافة الوسائط الحديثة التي أصبحت تمثل مساحات رئيسية للتأثير على الرأي العام.

إن اجتماع علماء الدين مع المسؤولين الأمنيين يفتح الباب أمام رؤية متقدمة في مكافحة التطرف والجريمة المنظمة، تستند إلى مقاربة وقائية تحصن الأفراد قبل أن يصلوا إلى مراحل متقدمة من الانحراف السلوكي أو الفكري، هذه الاستراتيجية تضع الدين في موقعه الطبيعي كعامل تحصين مجتمعي، يسهم في بناء مناعة فكرية تحمي الأفراد من التلاعب بالعقول، وتعزز دور الأمن الروحي كركيزة أساسية في معادلة الأمن القومي.

وإلى جانب البعد الأمني، تؤكد مشاركة مسؤولين حكوميين من قطاعات متعددة في هذا اللقاء التواصلي إدراكا مؤسساتيا لدور الدين في السياسات العمومية، حيث يسهم في تعزيز التماسك المجتمعي وترسيخ القيم التي تدعم الاستقرار، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية يرتبط ببيئة مستقرة قيميا وأخلاقيا، مما يستدعي بناء منظومة اقتصادية قائمة على ثقافة النزاهة والشفافية والالتزام بالواجبات.

وتتجلى أهمية رؤية إمارة المؤمنين، التي تشكل الضامن الأساسي لحياد الخطاب الديني وحمايته من الاستغلال السياسي أو التوظيف الإيديولوجي، إذ تضطلع هذه المرجعية بدور يتجاوز التحكيم بين التيارات الفكرية إلى وضع الدين في سياقه الصحيح، ليكون عنصر استقرار بعيدا عن الصراعات والتجاذبات، وهكذا، يعكس النموذج المغربي في تدبير الشأن الديني تجربة رائدة نجحت في تحصين المجتمع من الأزمات الدينية والسياسية التي عصفت بعدة دول.

وفي ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، يبقى الأمن الروحي الحصن الأخير لصيانة استقرار الدول، حيث أظهرت التجارب أن فقدان السيطرة على المجال الديني يؤدي إلى اضطرابات عميقة، قد تبدأ بفقدان الثقة في المؤسسات الدينية، لكنها سرعان ما تمتد إلى التشكيك في مشروع الدولة نفسها، ولهذا السبب، فإن بناء نموذج ديني متوازن، قائم على مقاربة علمية وعملية، يعد استثمارا استراتيجيا طويل الأمد، يضمن استقرار المجتمع، ويحافظ على الدولة من الانهيارات التي تهدد العديد من الدول التي لم تدرك أهمية الأمن الروحي إلا بعد فوات الأوان.

والخلاصة أن لقاء العلماء بالمسؤولين السياسيين والأمنيين والاقتصاديين يمثل رؤية متقدمة في إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفق نموذج قائم على تكامل الأدوار، حيث يضطلع الدين بوظيفته الحقيقية كحارس للقيم، وركيزة أساسية في تحقيق الأمن والاستقرار.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.