2 أغسطس 2025 / 15:34

الأقليات والدولة في العالم العربي.. التداعيات والاعتبارات النظرية والمقارنة

الدكتور حسن العاصي ـ أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا
على الرغم من أن العالم العربي موحد بفضل العديد من العوامل الاجتماعية والتاريخية، إلا أنه يتألف من تعددية من الانتماءات العرقية والقومية والثقافية واللغوية والمذهبية ذات الأصول العريقة والتشابكات المعقدة. لقد ثبت أن تحقيق الاعتراف بالتعددية الثقافية بهذه التعددية أمرٌ بالغ الصعوبة والصراع، لا سيما في العراق، ولبنان، وسورية.

ومع ذلك، نتطلع إلى حدوث تغيير في التصورات العربية للتعددية الثقافية والأقليات، وهو ما انعكس في المراجعات الأخيرة للميثاق العربي لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من قصوره النظري ونقائصه العملية، قد يُثبت الميثاق العربي لحقوق الإنسان المُنقّح أنه نقطة انطلاق مفيدة لسد هذه الفجوة. يتضمن الميثاق عدة أحكام تتعلق بالتعددية الثقافية وحقوق الأقليات، والتي من شأنها أن تُوجّه نحو اتجاه أكثر مراعاةً للتنوع.

العالمين العربي والإسلامي

يضع الباحث التركي في السياسة المقارنة “شينر أكتورك” Şener Aktürk الدول العربية في فئة “معادية للعرق” في دراسته “أنظمة العرق: مقارنة بين الشرق والغرب والجنوب” Racial Systems: Comparing East, West, and South يدرس تحليله الدول بحثاً عن وجود خمس عشرة سياسة مميزة للاعتراف العرقي، بدءًا من استخدام الفئات العرقية في التعداد السكاني، ومرورًا بحقوق الأقليات اللغوية، ووصولًا إلى الحكم الذاتي الإقليمي.

من المهم هنا عدم الخلط بين العالم العربي والعالم الإسلامي. يبدو أن العديد من الدول الإسلامية خارج المنطقة العربية تتبع التوجهات العالمية العامة نحو التعددية الثقافية. لنأخذ إندونيسيا أو ماليزيا، بما لديهما من أنظمة معقدة لحقوق الأقليات والسكان الأصليين. هناك بالفعل أدبيات ثرية حول التعددية الثقافية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة خارج العالم العربي، وخاصة في تلك الدولتين وشبه القارة الهندية.

توجد عدة دراسات وجميعها تتناول بعض القضايا النظرية والمعيارية الأساسية المتعلقة بآفاق المواطنة متعددة الثقافات في هذه البلدان. يشير هذا إلى أن مصاعب التعددية الثقافية في العالم العربي لا تتعلق بالإسلام في حد ذاته، بل تتعلق بخصائص الإرث العثماني والاستعماري، وبالجيوسياسية الإقليمية الحالية.

وقد أثيرت قضايا مماثلة في الجدل المعروف حول “الاستثناء الإسلامي” مقابل “الاستثناء العربي” فيما يتعلق بالديمقراطية. أعتقد أن مصاعب الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن تفسيرها من خلال الإسلام، بالنظر إلى النجاح النسبي للديمقراطية في الدول ذات الأغلبية المسلمة خارج نطاق الإسلام. يجب تجنب فكرة أن الشرق الأوسط استثناء من حيث عدد أو معاملة أو حساسية أقلياته.

في الواقع، إذا نظرنا إلى الأمر من خلال عدسة أوسع، فبدلاً من النظر إلى العالم العربي كاستثناء من الاستقبال الإيجابي عموماً والآثار التحويلية لسياسات التعددية الثقافية في معظم مناطق العالم، قد نرى أمريكا اللاتينية كاستثناء من رد الفعل العدائي عموماً والآثار المتناقضة للتعددية الثقافية، والسياسات التقليدية في معظم المناطق. كما أن تبني هذا المنظور الأوسع يُساعد على تجنب الادعاءات الحتمية المفرطة بشأن آفاق التعددية الثقافية.

في حين أن مقاومة حقوق الأقليات والسكان الأصليين منتشرة على نطاق واسع في عالم ما بعد الاستعمار، فمن الواضح أن الدول قادرة على التغلب على هذه الموروثات. فالتاريخ ليس قدراً محتوماً، وهناك اختلافات صارخة حتى بين الدول المتجاورة ذات التركيبة السكانية والإرث التاريخي المتشابه.

نحن بعيدون جداً عن معرفة الشروط اللازمة أو الكافية لاعتماد حقوق الأقليات والسكان الأصليين. كما أننا لا نملك نظريات راسخة حول متى ستصبح هذه الحقوق فعّالة عملياً، أو مُحدثة تحولاً في تأثيرها.

يرى بعض الباحثين أن صعود سياسات “السكان الأصليين” في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى قد عزز سياسات غير ديمقراطية وإقصائية، بل وعنيفة. بدلاً من بناء علاقات مواطنة ديمقراطية أكثر شمولاً وسلمية كما هو الحال في أمريكا اللاتينية.

لذا، يجب أن نرفض رفضاً قاطعاً كلاً من الاستثنائية والقدرية فيما يتعلق بسياسات الأقليات في العالم العربي. بدلاً من محاولة تحديد بعض الاستثنائية العربية المزعومة أو بعض ردود الفعل العربية المحددة مسبقاً لمطالبات الأقليات، من المهم دراسة العالم العربي كسياق مهم لاستكشاف ما هي في الواقع أسئلة عالمية حقيقية حول آفاق التعددية الثقافية.

ما هي الظروف التي يمكننا في ظلها تصور جدلية داعمة متبادلة لبناء الأمة وحقوق الأقليات؟ في ظل أي ظروف يمكن أن يكون للنضال من أجل حقوق الأقليات تأثير تحويلي؟ في أي ظروف يمكن للمعايير الدولية أن تلعب دوراً بنّاءً في هذه العملية؟ إذا كانت هذه الأسئلة صعبة وغير محسومة في العالم العربي، للأسباب التي نوقشت سابقاً، فهي أبعد ما تكون عن السهولة أو الحل في أي منطقة أخرى.

لقد عرّف نظام الملل العثماني الأقليات على أسس دينية، وهناك بالفعل أدبيات واسعة حول وضع المسيحيين واليهود كأقليات محمية في العالمين العربي والإسلامي.

مع أن إرث الملل العثمانية ذو أهمية حاسمة لموضوعنا، إلا أنني لا أريد التكرار، فقد تناولت موضوع الملة في مقالة سابقة عن الأقليات. بل أريد التركيز على كيفية تصور التنوع العرقي والقومي ومناقشته في العالم العربي، وكيفية ارتباط ذلك بالخطابات العالمية الناشئة حول حقوق الأقليات والسكان الأصليين.

تركز هذه الخطابات العالمية الجديدة بشكل أقل على الجماعات الدينية، وأكثر على جماعات مثل الأكراد في العراق أو سوريا، والأمازيغ في الجزائر، والجنوبيين في السودان. كما لا يرغب الفلسطينيون في إسرائيل أو العرب في إيران في أن يُنظر إليهم كأقلية دينية فحسب، بل كجماعة وطنية متميزة أو شعب أصلي (مع ما يرتبط بذلك من مطالبات بالأرض والحكم الذاتي وحقوق لغوية، وما إلى ذلك)، فكذلك تطالب مجموعات مختلفة داخل الدول العربية ليس فقط بالتوافق الديني، بل أيضاً بوضع الأقلية الوطنية أو السكان الأصليين.

وتواجه مجموعات عرقية أخرى تمييزاً طبقياً (مثل الأخدام في اليمن) أو إقصاءً (مثل العمال المهاجرين في الخليج). تُمثل هذه الأنواع من المجموعات العرقية والوطنية المحور الرئيسي للخطابات الدولية الحديثة حول حقوق الأقليات والسكان الأصليين، إلا أن أهمية هذه المعايير الدولية أو ملاءمتها للعالم العربي لا تزال غير مدروسة إلى حد كبير.

مصطلح العالم العربي

يجب علينا أيضًا توضيح مصطلح “العالم العربي”. في المقام الأول، نستخدم هذا المصطلح بمعناه الجغرافي التقليدي للإشارة إلى الدول ذات الأغلبية العربية، وجميعها أعضاء في جامعة الدول العربية. (تضم الجامعة أيضاً بعض الدول مثل جزر القمر وجيبوتي وموريتانيا والصومال حيث اللغة العربية لغة رسمية وليست لغة أغلبية، ولكن تركيزنا ينصب على الدول ذات الأغلبية العربية).

ومع ذلك، فإن هذه الحالة تشمل الأقليات العربية في الدول المجاورة، مثل إسرائيل. فلهذه الأقليات العربية طرقها المميزة في ربط تقاليدها العربية/الإسلامية وواقعها المحلي بخطابات ومؤسسات أكثر عالمية. كما نُجري مقارنات ذات صلة مع الدول المجاورة: على سبيل المثال، مقارنة طريقة النظر إلى الأكراد في الدول ذات الأغلبية العربية (مثل سوريا والعراق) بمعاملتهم في إيران أو تركيا.

تساعد هذه المقارنات في تسليط الضوء على ما يميز قضايا الأقليات في الدول ذات الأغلبية العربية (إن وُجد). نظام الملل تركً إرثًا باقٍ لا يزال قائماً حتى يومنا هذا يؤثر على الوحدة الوطنية.

عند تناول قضية حقوق الأقليات اليوم، من الضروري فهم هذه الخلفية لتجنب الاستراتيجيات – بما في ذلك الاستراتيجيات الدولية حسنة النية – التي ستُعزز ببساطة مكانتهم كمواطنين مُميزين. علينا أن نعلم كيف تُعقّد أعباء التاريخ جهود معالجة قضية الأقليات، والتأكيد على المساهمات الإيجابية المُحتملة التي يُمكن أن يُقدّمها إرث نظام المِلّ. وأنّ هذا الإرث ّ يحمل دروساً مهمة ليس فقط لحماية الأقليات، ولكن أيضاً لبناء هوية وطنية أكثر شمولاً، ومؤسسات عامة أكثر تمثيلاً.

إنّ المعايير الدولية للأقليات وحقوق الإنسان، إذا فُسّر تفسيراً مناسباً، يُمكن أن تلعب دوراً بنّاءً في بناء جدلية إيجابية لبناء الأمة وحقوق الأقليات.

نؤكد على أهمية التعددية الثقافية الليبرالية للأقليات في العالم العربي. إذا أُريد للتعددية الثقافية الليبرالية أن تكون ذات صلة ومفيدة، فيجب إعادة صياغة العلاقة بين الليبرالية والتعددية الثقافية لتوضيح أن الليبرالية تسبق التعددية الثقافية، وأن ترسيخ البنية الأساسية للديمقراطية الليبرالية يسبق السعي إلى نسخة متعددة الثقافات منها تحديداً.

إن الحفاظ على هذه الأولوية أمرٌ أساسي، ليس فقط للعالم العربي، بل أيضاً في الغرب. فإذا لم تتمكن التعددية الثقافية في العالم العربي من ترسيخ جذورها إلا بعد إرساء حد أدنى من الديمقراطية الليبرالية، فمن الصحيح أيضاً أن التعددية الثقافية في الغرب تواجه ردود فعل عنيفة وتراجعاً عندما يُنظر إليها على أنها تبتعد عن المبادئ الليبرالية الأساسية. وبشكل أعم، تُعدّ الديمقراطية الليبرالية شرطاً أساسياً لتعددية ثقافية مستدامة.

تغير مناهج دراسة العرقية

تتطلب دراسة أي أقلية تحليل بنية مجتمع بأكمله: إما أن تُعرّف الأقلية على هذا النحو في علاقتها بالأغلبية، أو أن المجتمع ككل يتكون من مجموعة من الأقليات. وتتنوع الأقليات بقدر ما تتنوع الانقسامات في أي مجتمع، على سبيل المثال، الرجال والنساء، كبار السن والشباب، المتعلمون والمتعلمات، العاملون والعاطلون عن العمل، وهكذا.

ومع ذلك، فإن المحور الأكثر أهمية الذي يفصل الأقليات عن غيرها في المجتمع الحديث هو المحور الإثني، وبالتالي فإن الأداة الأساسية لدراسة الأقليات هي تاريخ الإثنية وعلم اجتماعها السياسي. وهناك أدبيات وافرة حول هذه القضية، مقسمة إلى عدة مدارس ومناهج رئيسية متنافسة.

هناك ثلاثة مناهج رئيسية لدراسة العرقية: القومية العرقية، والإقليمية العرقية، والدين العرقي. تتناول القومية العرقية محاولات الجماعات العرقية لإيجاد تعبير إقليمي على مستوى الدولة بأكملها، يُفترض أنه يتوافق مع احتياجات الأمة وحقوقها. تتحدى الإقليمية العرقية سلطات الدولة القومية من خلال المطالبة باستقلالية محلية-إقليمية أكبر للجماعات العرقية، أو حتى التطلع إلى شكل من أشكال الاستقلال في المستقبل البعيد.

وتفترض الإثنية الدينية تداخل الوعي الديني مع بعض الخصائص الأخرى للعرقية – الأصل المشترك، أو الثقافة، أو اللغة – مما ينتج عنه شكل من أشكال النشاط العرقي الذي قد يكون أو لا يكون ذو توجه إقليمي، ولكنه ذو أهمية سياسية.

من الواضح أن بعض هذه الأشكال العرقية قد تتداخل وتعزز بعضها البعض. ومع ذلك، ينبغي إدراك أن أسس الوعي السياسي والنشاط في العلاقات العرقية لا تخضع فقط لتفسيرات مختلفة من مختلف المشاركين في العملية السياسية، بل تتغير أيضاً بمرور الوقت. بعبارة أخرى، تُعدّ هيكلة العرقية عملية بالغة التعقيد، ديناميكية وذاتية.

لذا، فإن السؤال الحاسم هو كيف ولماذا تصبح العرقية حقيقة سياسية من حقائق الحياة؟ تُقدّم ثلاث مدارس فكرية رئيسية إجابات مختلفة على هذا السؤال.

أولاً: النهجان الاقتصادي والعقلاني

ينبع هذان النهجان من عصور سابقة عبر النظريات الماركسية، التي عُدّلت لاحقاً بنهج إ”ميل دوركهايم” الاجتماعي. الفكرة الأساسية هي أن عملية التنمية الاقتصادية تُنشئ مجتمعات أكبر على حساب المجتمعات الأصغر، وأن دمج الوحدات الأصغر والأكثر تميزاً في إطار مجتمعي أوسع وأشمل أمر لا مفر منه مع تحول الاقتصاد الرأسمالي الحديث إلى حقيقة سائدة في المجتمعين الوطني والدولي. ويمكن إيجاد تنويعة جديدة على هذه المواضيع في نهج الاختيار العقلاني السائد في السنوات الأخيرة.

ثانياً: نهج التحديث

يفترض هؤلاء أن عملية التحديث، كما عُرِّفت عادةً في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، تُنشئ فعلياً كيانات جديدة من خلال توسيع نطاق الاتصالات، وانتشار محو الأمية والتعليم، وإدخال التكنولوجيا الحديثة، وتداخل فكرة المشاركة الجماهيرية في العملية السياسية. افترضت الأشكال المبكرة لنظرية التحديث أن إنشاء مثل هذه الكيانات الجديدة من شأنه أيضاً أن يخلق دولاً جديدة يمكنها التغلب على هوياتها ما قبل الحديثة، تماماً كما افترض “كارل ماركس” و”دوركهايم”.

ومع ذلك، فإن الأشكال اللاحقة والأكثر تطوراً لنظرية التحديث – ما يمكن أن نسميه نهج التحديث-الصراعي – أشارت إلى احتمالات معاكسة، تُعتبر أكثر ترجيحاً. حيث جادل هؤلاء الباحثون بأن عملية التحديث ولّدت الصراع العرقي وفاقمت منه من خلال تغيير أسس المجتمع الأكثر تقليدية، وخلط قضايا الشرعية، وإدخال موارد جديدة إلى ساحة المنافسة السياسية.

وفقاً لهذه الطريقة في التفكير، فإن شكوك عملية التغيير الهائلة والمتعددة تُثير هروباً نحو العرقية كشكل من أشكال الاطمئنان والأمان من مخاطر الحداثة وخطرها. إضافةً إلى ذلك، فإن النخب المهددة بفقدان الوصول إلى الموارد في ساحة تهيمن عليها أشكال من المنافسة تجدها غير مألوفة، وبالتالي يصعب السيطرة عليها أو التلاعب بها، تميل إلى إحياء المشاعر العرقية والتضامن بهدف تحويلها إلى موارد سياسية حيوية.

وهكذا، قد يحاول القادة السياسيون الذين يجدون صعوبة في التكيف مع أسلوب أيديولوجي للسياسة الحزبية إنشاء أحزاب قبلية وعرقية لمواجهة التأثير الأيديولوجي وشرعية منافسيهم. فهم يزرعون حتماً مشاعر الفخر والتضامن والهوية في الجماعة العرقية التي يستخدمونها، حتى لو كانت هذه المشاعر كامنة منذ زمن طويل. وعندما تشعر مجموعات أوسع بالحرمان بسبب إعادة توزيع الموارد الاقتصادية وغيرها في ظل التحديث، فقد يلجأون أيضاً إلى الهوية العرقية كمصدر قوة.

ثالثاً: المناهج العرقية البدائية أو الأصيلة

تفترض هذه المناهج أن للجماعات العرقية وجوداً أصيلاً خاصاً بها، وليست مجرد خيالات يستغلها القادة والسياسيون أو يستغلونها. هذا التلاعب ممكن بالفعل، ولكن فقط عندما يكون هناك أساس موضوعي قوي لوجود هذه الجماعة، والذي يمكن إحياؤه أو استخدامه في العملية السياسية.

تؤكد التنويعات الأحدث في هذا الموضوع على ديناميكيات التطور المتضمنة في السياسة العرقية. على الرغم من احتمال وجود أساس موضوعي للعرقية، إلا أن الجماعات العرقية نفسها تتشكل وتُعاد صياغتها باستمرار. عند تحديد الحدود السياسية لآسيا وأفريقيا، على سبيل المثال، أعادت القوى الاستعمارية تعريف حجم الجماعات العرقية ونطاقها.

أدى توسيع الحدود السياسية إلى استيعاب الجماعات العرقية وتمايزها: فمع اختفاء الجماعات القديمة، ظهرت جماعات جديدة، بينما اندمجت جماعات أخرى وانفصلت ببساطة.

لا بد أن يتناول النهج العرقي الأصيل علاقة الإثنية بالبنية الطبقية، وهو سؤالٌ مثيرٌ للاهتمام يعود إلى أيام المدرسة الماركسية. يرى أستاذ العلوم السياسية الأمريكي “دونالد هورويتز” Donald Horowitz أن للهوية العرقية سمةً فريدة. “بينما يستطيع الأفراد تجاوز طبقتهم الاجتماعية، وبينما يُمكن الحراك الاجتماعي من جيل إلى جيل، فإن الروابط العرقية نسبية. فإذا وُلد المرء في جماعة عرقية، فليكن؛ فلا يمكنه الخروج من هويته العرقية.”

من أهمّ حجج هذا النهج أن الإثنية مفهومٌ مقارنٌ بالفعل. أي أن الجماعات العرقية تُعرّف حتماً بعلاقتها بالآخرين بقدر ما تُعرّف بإدراكها لأيّ خصائص موضوعية. هناك جدلٌ كبيرٌ حول تداعيات هذه الأطروحة، ومع ذلك، لا يوجد جدلٌ يُذكر حول ضرورة إشراك فهم الإثنية في العلاقة النفسية بين الجماعات بشكلٍ بارز. وكما ذُكر سابقًا، فإن دراسة الأقليات والإثنية هي بالضرورة دراسةٌ للعلاقات بين الأغلبية والأقلية، وبين الأقلية والأقلية.

التداعيات والاعتبارات النظرية والمقارنة

في محاولةٍ لتقييم التداعيات النظرية للتحليل المقارن الأولي، يبدو من الآمن القول إن هناك نموذجاً للأقليات المدمجة، وأن لهذا النموذج خصائصه التي تجعله الأكثر وضوحاً. ثم هناك نموذج الأقليات شبه المدمجة، مثل الأكراد، حيث كان الوضع مختلفاً، على الرغم من وجود قدرٍ كبيرٍ من الإمكانات نفسها.

النموذج المعاكس للأقليات غير المدمجة أو المشتتة والمنتشرة، مثل المسيحيين الأرثوذكس (أو اليهود في العصور السابقة)، يقع في الطرف الآخر من الطيف، وهناك حالة الأقباط بينهما، قريبة من النموذج المنتشر، ولكنها ليست مطابقة له، نظراً لأعدادهم الأكبر وتركزاتهم الديموغرافية الجزئية.

لذا، لدينا طرفان مختلفان من الاستمرارية النظرية – المدمجة من جهة والمنتشرة من جهة أخرى – وبينهما شيء مثل شبه المدمجة وشبه المنتشرة.

قد تكون هذه طريقة مناسبة لتصنيفها لأغراض التحليل والمقارنة. يجب أيضاً مراعاة متغيرات أخرى، بما في ذلك تعريف الأغلبية، لفهم ماهية الأقلية بشكل أفضل. فإن تعريف الأغلبية ليس دائمًا ثابتاً، بل يعتمد على الهوية الذاتية للمجتمع السياسي في لحظة معينة من التاريخ.

لقد لاحظ عدد من الباحثين أن الهوية العرقية قابلة للتغيير والتلاعب. في تحليله للسياسة العراقية قبل سنوات عديدة، صاغ الحاكم العسكري البريطاني للعراق في ثلاثينيات القرن الماضي “ستيفن هيمسلي لونغريغ” Stephen Hemsley Longrigg في كتابه “أربعة قرون من العراق الحديث” Four Centuries of Modern Iraq العبارة التالية: “أكراد لأغراض وزارية”.

يمكن لأي شخص أن يكتشف هويته كأقلية تحت ضغط العمليات السياسية، ويمكن لشخص آخر أن ينكر هذه الهوية لأسباب عديدة.

إضافةً إلى ذلك، يمكن للمرء أن ينتمي، بل وينتمي بالفعل، إلى عدد من الكيانات العرقية وغيرها من الكيانات “الأصلية” في الوقت نفسه، مما يُظهر ما يُطلق عليه علماء الاجتماع السياسي “الانقسامات المتقاطعة”. يمكن للمرء أن يكون عضواً في الأغلبية والأقلية في الوقت نفسه، أو عضواً في عدة أقليات.

يمكن أن تكون نتائج هذا الانتماء المتعدد ذات أشكال مختلفة. كانت النظرية الكلاسيكية في الغرب ترى أن الانقسامات المتقاطعة مفيدة للمجتمع أساساً لأنها تُحسّن من بعضها البعض، وبالتالي تُرسي أسس مجتمع أكثر تعددية تتعايش فيه عناصر ومبادئ تنافسية مختلفة.

وقد تعرضت هذه النظرية للطعن مؤخراً في الغرب، وبالتأكيد لا يوجد دليل يُذكر يدعمها في الشرق الأوسط. سيُسارع المحللون إلى إضافة مُتغير آخر، يُشار إليه عادةً بمستوى المأسسة. تُجادل هذه النظرية بأن أسلوب بناء المؤسسات (الأحزاب، والنقابات، والأندية، والعمليات الانتخابية، ومجموعة مُتنوعة من المنظمات الرسمية) يُحدث فرقاً بالغ الأهمية في الحظوظ السياسية لأي بلد، لأن المأسسة وحدها هي التي تُمكّن النظام السياسي المُستقر من العمل بطريقة مُنظمة، بمعزل عن تقلبات التنافس النسبي على الموارد.

عند ولادة هذا النهج النظري، في أواخر ستينيات القرن الماضي، كرر كبار كهنته مراراً وتكراراً أن الشرق الأوسط يتميز عموماً بانخفاض مستوى المأسسة، مما يعني أن هناك عدداً قليلاً من الكيانات السياسية التي صمدت بفضل قوتها الذاتية بدلاً من انغماسها في الانتماءات والولاءات العرقية والقبلية.

لا تزال هذه النظرية قوية، وإن كانت أقل شيوعاً اليوم، ولها تأثير مُباشر على مسألة الأقليات في الشرق الأوسط.

أولاً: تكتسب هوية الأقلية أهمية أكبر في المُجتمعات التي تقل فيها المؤسسات المُعقدة والمستقرة، وذلك ببساطة لأن أساس الحياة السياسية والمُنافسة يكون أكثر محدودية. يساعد هذا أيضاً على تفسير سبب ميل القضايا العرقية في مثل هذه المجتمعات إلى أن تكون أكثر حساسية وتؤدي إلى مزيد من العنف.

ثانياً: تقلّ الموارد والقدرات التي يمتلكها المجتمع المعني في محاولة معالجة علاقات الأغلبية بالأقلية عندما تكون المؤسسات السياسية ضعيفة، وذلك بسبب نقص الآليات التكاملية وحتى الساحات المحايدة التي يمكن أن تلتقي فيها الهويات والكيانات العرقية المختلفة على أسس مقبولة بشكل متبادل.

يؤدي هذا النقص بدوره إلى الشك وعدم الثقة في المؤسسات القائمة، التي يُنظر إليها على أنها أسيرة مصالح عرقية متنافسة، مما يقلل من قدرتها على صياغة السياسات. وعلاقات تشمل مجموعة متنوعة من المصالح والولاءات.

ثالثاً: ستشعر الأقليات بأنها لا تستطيع حماية مصالحها إلا بإنشاء مؤسسات خاصة بها أو الاستيلاء على المؤسسات القائمة، مما يجعلها موضع شك في نظر الأغلبية.

كل هذه العوامل تؤدي إلى حياة سياسية شديدة التقلب، حيث يغيب التأثير المستقر للمؤسسات السياسية الدائمة، مما يؤدي إلى نتائج مُنهكة للبلاد. المؤسسة القوية الوحيدة القائمة هي الدولة، فتصبح محوراً للمنافسة العنيفة باعتبارها الكائن المؤسسي الوحيد الذي يستحق الاستيلاء عليه.

بتحليل بعض هذه الملاحظات النظرية في السياق الملموس لسياسة الشرق الأوسط، يبدو أنه نظراً لقلة المؤسسات وبؤر الولاء البديلة في المنطقة، فقد استمر الصراع العرقي بين الأغلبية والأقليات لفترة أطول، مع احتمالية أكبر للتقلب من أي مكان آخر، ويمكن، بل ينبغي، فهم هذا الأمر بشكل صحيح في ضوء الإسلام والسياسة.

اهتمامات نظرية إضافية

تُعد العلاقة بين الأقليات والدولة من السمات المهمة لدراسة العرق في الشرق الأوسط. ونظراً للتأخر النسبي في نشوء الدول في المنطقة وصعوبة مأسستها في مواجهة تحديات داخلية متعددة، فإن الواقع العرقي للحياة يُصبح أكثر إلحاحاً في دولة الشرق الأوسط الحديثة.

فعندما تتداخل السياسات العرقية للأقليات مع الهويات الطائفية والدينية (أحياناً داخل إقليم معين داخل الدولة)، يمكن أن تُصبح الجماعات العرقية والأقليات مصدر إزعاج بالغ. ويصدق هذا بشكل خاص في

الدول التي لا يترك فيها التنوع الجديد نسبياً في القومية مجالاً كافياً للاعتراف بوجود الأقليات، التي يُنظر إليها على أنها تُشكل تحدياً لسلطة الدولة ليس فقط من خلال ما تفعله، بل أيضاً بحكم ماهيتها.

على الرغم من أن دولة الشرق الأوسط قد نجت بشكل مثير للإعجاب، إلا أنها في بيئة قاسية وغير مضيافة، إلا أنها بعيدة كل البعد عن الأمان. يُشكّل الظهور الأخير للنشاط الإسلامي المتطرف، إلى جانب تنامي الوعي العرقي، تهديداً جديداً وقوياً لشرعية الدولة واستمراريتها.

ومع ذلك، فقد أظهرت هذه الدول، حتى الآن، درجة عالية من العزيمة والمهارة في احتواء هذا التهديد القوي. بل إن ردود الفعل على التحديات الأخيرة تُشير مجدداً إلى مأسسة الدولة الشرق أوسطية كحقيقة مؤثرة للغاية في التاريخ السياسي المعاصر للمنطقة.

تُشكّل المواجهة بين الدولة والتحديات العرقية الجديدة أحد أكثر مجالات الدراسة إثارة للاهتمام في سياسات الشرق الأوسط المعاصرة. ويسعى الباحثون إلى التأكيد على مفهوم الاستراتيجيات التي طورتها واعتمدتها سلطات الدولة تجاه الأقليات، والاستراتيجيات التي تستخدمها الأقليات تجاه الأنظمة والدول.

ورغم أنه لا يزال من السابق لأوانه محاولة تصنيف هذه الاستراتيجيات تصنيفاً منهجياً، فإن مساهمات هؤلاء الباحثين تُسهم في إرساء أسس هذه المحاولة النظرية.

بشكل عام، لا توجد سوى دراسات حالة قليلة في الشرق الأوسط تُشكّل جوهراً معرفياً مقبولاً، استناداً إلى مادة تاريخية مُفصّلة وأسس علمية اجتماعية سليمة. إن الدراسات التاريخية تعاني من ثغرات خطيرة.

مهما كانت قيمة هذه الدراسات كتاريخ سياسي، فإنها نادراً ما تتناول مسألة الهويات الوطنية والإقليمية باعتبارها متوافقة لا متعارضة. علاوة على ذلك، لا يتناول أي من هذه الأعمال نظريات القومية أو الموضوعات ذات الصلة بتكوين الدولة والأدبيات التاريخية والاجتماعية المتعلقة بها، إلا ما ندر.

ومع ذلك، ربما يُخطئ علماء الاجتماع أيضاً فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية، يبدو أن المتخصصين في هذه القضايا يشيرون إلى الأدبيات النظرية في مجلات تخصصاتهم بشكل أكثر تواتراً مقارنةً بدراساتهم لمواضيع مماثلة في مقالات أو كتب مخصصة لمواضيع الشرق الأوسط تحديداً.

بعبارة أخرى، لا يستخدم المؤرخون مفاهيم العلوم الاجتماعية بشكل كافٍ، ولا يستخدم علماء الاجتماع ما يكفي من المعرفة الملموسة المكتسبة من تاريخ الشرق الأوسط.

ليس من الممكن ولا المرغوب فيه إجبار المؤرخين على كتابة علوم اجتماعية مشكوك فيها، أو إجبار علماء الاجتماع على كتابة تاريخ مشكوك فيه بنفس القدر. بدلاً من ذلك يجب إنتاج هذه الدراسات على مراحل تشمل ورشات عمل يقدم فيها متخصصون في تاريخ البلدان أوراقاً بحثية حول الحالات المختلفة.

مركزية الدولة والعلاقات بين الدولة والأقليات

العدد الهائل من الاستراتيجيات التي يتبعها كلا الجانبين استجابةً للقيود. الافتراض الأساسي بأنه في حين أن التلاعب بالهويات أمرٌ واقع، إلا أن هناك أيضاً شكلاً من أشكال العرقية الأصيلة، وهو تنويع على النهج الثالث لدراسة العرقية الموصوف سابقاً. أهمية تداخل (أو انعدام) الخصائص العرقية للأقلية: السمات القومية، والوعي الديني، والثقافة المشتركة.

وحساسية الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط للتحديات الإقليمية المحتملة، ومن هنا تأتي أهمية التمييز بين الأقليات المدمجة مقابل الأقليات المنتشرة. أهمية التوقيت. لا نعرف سوى القليل نسبياً عن النقطة في الديناميكيات السياسية لكل بلد التي تشهد ارتفاعاً هائلاً في الوعي والميل إلى النشاط الجماعي.

سياسات البدائية

يُركز النهج العرقي الأصيل لدراسة السياسات العرقية على كل من ديناميكيات التغيير في الهوية والوعي العرقيين، والمتغيرات الموضوعية إلى حد ما التي تُحدد الأغلبية والأقليات، والتي تميل إلى الاستمرار مع مرور الوقت. يتعلق الأمر أيضاً بطبيعة السياسة في المجتمع المعني.

ليس كل انقسام محتمل في المجتمع يُسيّس، ولكن في بعض الأحيان يحدث هذا التحول بسرعة هائلة. إحدى الطرق المؤثرة لمعالجة هذه القضية هي من خلال الصيغة الكلاسيكية للبدائية، التي كانت موجودة منذ ستينيات القرن الماضي وتشهد الآن انتعاشاً، بسبب الابتعاد عن كل من نظريات التحديث البسيطة والتعقيدات التي تنطوي عليها المناهج الاقتصادية.

النهج النظري للبدائية غني وعميق؛ وهو يستحق بجدارة مكانة مركزية في دراسة الأقليات والعرق. اقترح عالم الأنثروبولوجيا السياسية البارز “كليفورد غيرتز” Clifford Geertz الصيغة الأصلية في مقال نُشر عام 1963. جادل “غيرتز” بأهمية الروابط البدائية، تلك الروابط التي يولد بها المرء.

في ذلك الوقت، كان التصرف وفقاً لهذه الهوية الموروثة يُعتبر أقل حداثة من المعايير العقلانية والعلمانية والنسبية للمجتمع المتقدم.

لقد تم التخلي إلى حد كبير عن هذا النهج العرقي المركزي والتبسيطي؛ فقد أثبتت البدائية أهميتها البالغة في جميع المجتمعات، ولا يوجد دليل على قوتها بشكل خاص في أي جزء من العالم. أصبحت عالمية البدائية مقبولة بشكل عام الآن.

ويبدو أنها في أوج قوتها في أوروبا الشرقية مع الفراغ الاجتماعي والسياسي الذي نتج عن انهيار المؤسسات القديمة والمجتمعات السياسية بسبب الموجة الثورية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.

قدم “غيرتز” أمثلة مختلفة على معنى الروابط البدائية: روابط قائمة على الدم، والقرابة، والدين، والعشائر، والتقارب التاريخي المفترض، وما إلى ذلك. على الرغم من أن بعضها يبدو متداخلاً، ويبدو الكثير منها خيالياً فحسب، فإن هذا لا يعني أنها أقل واقعية، لأن الأفكار في أذهان جماعات الناس هي حقائق سياسية من حقائق الحياة، وهي بنفس قوة أي عوامل موضوعية. ومع ذلك، يصعب التعامل مع الهويات البدائية لأنها قابلة للتغير بسرعة كبيرة وقد تظهر بأشكال مفاجئة.

وقد حدثت هذه التحولات في مجتمعات تشهد تغيراً سريعاً، مما أدى إلى انعدام الأمن، وبالتالي تشجيع الناس على العودة إلى قوقعتهم الآمنة نسبياً على حساب المجتمعات السياسية الأكبر. الروابط البدائية سهلة الفهم، وتبدو دائمة وجديرة بالثقة. على النقيض من ذلك، يصعب التعايش مع المجتمعات السياسية الأكبر، لأنها تتطلب بعض التكيف مع الأفكار والخصائص المشتركة التي تبدو مصطنعة. التباين في الصعوبة مفهوم بسهولة.

تختلف الروابط البدائية في شدتها. وبالتالي، قد تهدد بتفتيت الدولة إما بمحاولة إجبارها على الانخراط في مجتمعات سياسية أكبر أو بتفتيتها إلى مجتمعات أصغر. في كلتا الحالتين، تهدد شرعية هياكل الدولة القائمة، وهذه هي أهميتها الجوهرية للسياسة المعاصرة.

في ضوء القيود السياسية، نادراً ما تُنشئ الحركات القائمة على الروابط الأصيلة دولاً خاصة بها، وعندما تفعل ذلك، لا يُمكنها النجاح لأنها عملياً لا تخلو أبداً من الأقليات التابعة لها.

لذلك، لا توجد أمثلة حقيقية على دول عرقية في الشرق الأوسط، ومن غير المرجح أن يكون لدينا أي منها في المستقبل أيضًا. ومن المثير للاهتمام أن حتى تلك الجماعات العرقية التي يُشار إليها في الأدبيات باسم “الأقليات المدمجة” لا تدّعي تأسيس دول خاصة بها. بل على العكس، تبدو هذه الأقليات الأكثر ولاءً للدول الوطنية القائمة التي ترغب في النجاح فيها، بل وتمتلك حصة كبيرة من السلطة الكامنة في آلية الدولة.

ماذا نستخلص؟

من الواضح أن هناك أنواعاً مختلفة من أوضاع الأقليات. هناك بلد لا توجد فيه أغلبية، بل أقليات فقط هو لبنان. توجد أغلبية كبيرة، ذات وضع أقليات واضح، في مصر. في سوريا، توجد أقلية إلى جانب أغلبية واضحة، على الرغم من أن الأغلبية لا تسيطر على المركز السياسي.

تهيمن أقلية على الأغلبية، وأقلية كبيرة أخرى في العراق. في شبه الجزيرة العربية، تهيمن أغلبية واضحة، ولكن هناك أيضاً وجود كبير للعمال الأجانب إلى جانب أقليات إسلامية داخلية قوية.

لدينا حالة السودان، حيث يوجد انقسام حاد بين شمال عربي مسلم وجنوب غير مسلم وغير عربي. في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تندرج الحالات تقريباً ضمن أحد هذين النمطين.

لا يمكننا حالياً التعميم بشأن جميع هذه الحالات. على سبيل المثال، لا يمكننا تحديد ما إذا كان أحد الأنماط أكثر ملاءمةً للتوافق بين الجماعات من نمط آخر، أو ما إذا كان أحد الأنماط أكثر عرضة للتنافس العنيف. ولكن يمكننا القول إن هذه الأنماط ليست خاصة بالشرق الأوسط بحد ذاته، إذ يمكن العثور عليها في أماكن أخرى من العالم.

من المنطقي افتراض أن أغلبية كبيرة واحدة قادرة على التمتع بحكم أكثر استقراراً من أغلبيات أصغر، ومن المنطقي أيضاً افتراض أن الأقليات المتعددة أصعب على الأغلبية في التعامل معها من أقلية واحدة.

تُشكل الأقليات المنتشرة، كقاعدة عامة، تهديداً سياسياً أقل للأغلبية من الأقليات المدمجة ذات القاعدة الإقليمية؛ في الواقع، تُعد هذه الملاحظة إحدى النقاط التي تستحق التوسع فيها لاحقاً.

يبدو أن الأرض والإقليم يُحدثان فرقًا كبيراً في تأثير الجماعات العرقية في الشرق الأوسط، ويبقى أن نرى مدى صحة هذا الأمر. وقد لوحظت مؤخراً أهمية القاعدة الإقليمية في الكيانات الجديدة الناشئة من أنقاض الاتحادين السابقين ليوغوسلافيا والاتحاد السوفيتي. وتوجد أمثلة أخرى في حالات معروفة للصراعات العرقية في أفريقيا وآسيا، من زائير إلى كمبوديا.

ويبدو أن أحد القاسم المشترك بين هذه الحالات هو البعد الإقليمي الذي يُحوّل الأقلية المفترضة إلى قوة عرقية ملموسة.

يجب دراسة الأنماط السياسية الوطنية في مقابل أنماط وضع الأقليات. لقد رأينا أن الشرق الأوسط يضم أقليات متماسكة ونقيضها، الأقليات المنتشرة (العلويون على عكس المسيحيين الأرثوذكس اليونانيين، على سبيل المثال)، كما يُظهر تمييزات عرقية مقابل تمييزات دينية: ونعني بالتمييز الديني التمييز بين الإسلام وسائر الأديان.

ومع ذلك، هناك بُعد آخر، وهو الفرق بين أصناف الإسلام التي تُعدّ مهمة بما يكفي لجعل الجماعات المعنية تُعادل الأغلبية والأقليات. هنا أيضاً يصعب وضع النظريات. على سبيل المثال، يمكننا النظر في فرضية مفادها أن الأقليات الإسلامية الداخلية من المرجح أن تكتسب أهمية أكبر في المستقبل المنظور نظراً لشرعيتها التي ستكون أعلى من شرعية الجماعات الأخرى.

قد يتحسن وضع الأكراد في العراق، كما لو كان ذلك تشبيهاً للوضع الاستعماري السابق في دول أخرى، حيث كانت القوى الاستعمارية تفضل الأقليات المدمجة.

قد يكون الدعم الدولي للحكم الذاتي الكردي في الشمال في أعقاب حرب الخليج عام 1991 نزوة تاريخية متأخرة، تؤدي وظيفياً نفس دور التفضيلات الاستعمارية القديمة للأقليات المدمجة في سوريا.

من الواضح أن هذا الدعم أقل استقراراً بكثير من الدعم الاستعماري القديم، لكن تأثيره على المستقبل قد يكون حاسماً.

هناك العديد من العناصر والمتغيرات الأخرى التي تُحدث فرقًا في مصير الأقليات في العالم العربي.

ومع ذلك، فإن التفاعل بين المواضيع الرئيسية المشار إليها في هذا التحليل الأولي – الأقليات المدمجة مقابل الأقليات المنتشرة، وطبيعة الروابط الأصلية، والتطرف، والإرث الاستعماري – يُهيئ المسرح الذي تتكشف فيه إشكالية الأقليات في الشرق الأوسط.