23 مارس 2025 / 23:14

الأعراس التقليدية السلاوية بأمثالها الشعبية

محمد فؤاد قنديل
تفاصيل العرس الأصيل أو ما يطلق عليه “الفْرحْ”، تعكس عراقة مجتمعاتنا الصغيرة، وتناغمها مع منظومة قِيمها النبيلة في تحصيل الأسباب الباعثة على السعادة المشتركة والمتقاسمة بين الأحباب و الأقارب. والعرس احتفال برضى الأسر وسعادتها بتربية أولادها وبناتها على هدى من الله، إلى أن يرتقوا بالجلوس على”المرتبة”، والطواف فوق “العمارية”، على مرأى من “الحْضَّارات” الراقصات طربا على إيقاع “ألف هنية وهنية ويا لالة والعروسة فالعمارية ويا لالة”.

هو شعور الأسرة بالنشوة والفرح بعد أعوام من التربية والتهذيب لناشئة تسير بخطواتها النجية لبناء عش الزوجية. “الزواج بالنية والحرث بالنية يا سيدي يا رسول الله”. هكذا كانت ثقافة الأجداد عمادها التربية وقوامها التوكل على الله. “إوا الله يرحم الأولين مفتحين لقلوب، حتى حاجة ما جابوها من لكذوب”.

لقد قدم لنا كتاب”مظاهر التأثير الحضاري الأندلسي الموريسكي في المجتمع المغربي(1)، معطيات دقيقة عن العرس الرباطي الذي يتشابه إلى حد كبير مع العرس السلاوي والتطواني، كما يشير إلى ذلك مؤلف الكتاب الأستاذ المنتصر مصطفى. وتعتبر التفاصيل التي قدمها لنا الباحث ذات قيمة وفائدة معتبرة، حيث حدد المراحل التي يمر منها العرس، من حمام وتعليق الشوار وليلة النبيتة والملاك أو ضريب صداق مرورا بحفل الحناء وحفل الجلوة والتقصيص…لقد استأنست بهذا المرجع الثمين، وأضفت إليه ما قد يضفي على مجهود المؤلف المسنود بالبحث الدقيق، ما اعتبرته لمسة النباش المتواضع في التراث.

ولإعطاء صور ومعاني للأمثال الشعبية المرتبطة بما يحيط بالعرس من تفاصيل، فقد قمت بصياغتها في مواقف طريفة من نسج خيالي. علما أن ما يدور في كواليس الأعراس قد يختلف في الأشكال، لكنه يتقارب في التفاعل والأحاسيس في كل مكان. والأمثال الشعبية في الأعراس المغربية قد تنطبق معانيها على مكان دون آخر، لأسباب متنوعة.

سبق وأن أعددت موضوعا بعنوان” يلا شفتي موكة خطابة عرف بلارج عريس”، تطرقت فيه لمهنة “الخطابة” الشاقة والحساسة، ولمكانتها وقيمتها في سالف الأزمان، وما تعرضت له من مواقف لا تحسد عليها من قبل بعض الأسر. لقد انقرضت هذه المهنة جراء التطورات المجتمعية، وما ترتب عنها من استغناء عن وساطة “الخطابة”، في نكران سافر لِكُلِّ أفضالها وجحود لكل تضحياتها، حتى أضحت تهان بكلام جارح في عصرنا :”يلا كانوا لمزوجين فالسما، كيعطي ربي للخطابة لعمى”. وتأتي بعد الخطبة” كمالة لعطية” وهي ما تبقى من الهدايا التي يقدمها العروس.

“عرس ليلة تدبيرو عام”، فأن يتواصل العرس سبعة أيام بكل ما يلزِمه من طقوس مرعية، يجب اعتبارها وحُسبانها وتنفيذها وفق التقليد والعادة دون اجتهاد أو إضافة، فهذا يعكس المثل الشائع: “اللي قال العرس ساهل يسقي لو غير ماه”.

وعلى خرير المياه الساخنة “لْمْتلقَة” من “البرمة”، في تناغم مع زغاريد وأصوات ” للالة وما لي وتقرقيب السطالي” وأضواء الشموع وطيب الورود وبخور العود لقماري، تُعزف سمفونية بداية الأفراح بعهد جديد في مشوار الحياة. إذ تنطلق الاحتفالية قبل يومين أو ثلاثة من موعد العرس بكراء الحمام للعروس وأهلها، تحظى خلالها بشرة العروسة بعناية المتخصصات المبرزات في الخلطات الطبيعية المُليٍّنة للجلد. تجعل الناقمات يقضمن أظافرهن غيضا وحسدا ويرددن في جوفهن: ” آجيها بعد التصبينة لا تجيها بعد التحمحيمة”، أما القريبات فيرددن ” لالة زينة زينة وزادها نور الحمام”.

ها هي العروس قد استجمعت كل جمالها الفاتن الذي كان يسلب الألباب حتى قبل الحمام. كيف لا وهي “المسرارة” على الدوام، “إوا ما كتسلف بنديرها نهار العيد غير الحمقة”. يبدو الجميع منشغل بتقييم جمال العروس وبهاءها بعد الحمام، لكن الفيلسوف الشاب الذي كان يعتقد أنه فارس الأحلام لكل فتاة، له رأي مخالف، وأحكامه الجائرة صادرة من نرجسيته واعتزازه بنفسه. لقد صمت دهرا ونطق كفرا، وهو يتصيد التقاط نظرة محتشمة في وجه عروستنا قائلا: ” لا يصلح العطار ما أفسده الدهر”. ما أكثر سليطي اللسان كصاحبنا، وداوءه الشافي في الوصفة السحرية: “الفم الخانز دواه السواك الحر”.

يوم الخميس هو موعد “تعلاق الشوار”، وهي عادة يُستعرض خلالها جهاز العروس المكون من مطروزات وألبسة وأثواب فاخرة كالعبروق والمليفة وسبنيات من عنبر الحرير، وقفطان بركاص الغول، والتكة المرقومة بالحرير، والحايك السوسي وغيرها. وهذه ملابس لنساء سلا جمعها بحث رفيع للدكتور محمد السعديين (2) ولعلها كانت جزءا من الهدايا الثمينة التي كانت أم العروس تهيئها لابنتها منذ كانت طفلة، ويقدم كل نوع من الهدايا في آنية تسمى “المكب و الطيفور”.

في نفس الخميس تقام ليلة “النبيتة”، فتحاط العروس بأسرتها وصديقاتها المقربات، يتبادلن أصدق المشاعر والعواطف، ويتواعدن على دوام حبل الود حتى بعد زواج إحداهن. لكن الأجواء لا تخلو من توجس الصديقات من تقلب مستبعد لمزاج العروس بعد زواجها ” إوا الله ينجيك من المشتاق يلا فاق ومن العاتق يلا ضربات الصداق”. هكذا يقضين ليلتهن بيضاء بمشاعر مختلطة ” إوا حديث الليل مدْهون بالزبدة، تطلع الشمس ويذوب”.

يوم الجمعة “عيد المسلمين” يخصص ل”ضريب الصداق أو لملاك”، بحضور العدول. يتفق على الصداق: “للي ما بغا يزوج بنتو يغلي صداقها..وللي بغا يبقى بشانو يتزوج بقرانو”. يُلبِس العريس لعروسه الخاتم، ويقدم لها أفخر الهدايا “دقة العرس والدهاز قصح من المهراز” و”صداق بنت القايد كله مخايد” أما “صداق الحمقة كله شراوط”.

ثم يتناوب العروسان في شرب الحليب وتذوق التمر. وكلما كانت أسرة العريس ميسورة، كان الخاتم ثمين وأحجاره من الماس أو الفيروز أو المرجان. وكثرة الهدايا من أثواب الحرير الحر للعروس يقال فيها من باب المبالغة: ” تبهدل لحرير حتى حكوا به المقالي، وفرشوه باش يرقدو عليه الحمير”.

أما العريس”المزلوط”، فقدره المسكين بهذا التهكم: “أش خاصك العريان…خاتم أمولاي”. وعلى ذكر بعض المقللين من قيمة تنظيم الأعراس لأسباب مادية، فقد وجدوا راحتهم في المثل: “العمدة على الأخلاق أما العرس راه غير زواق”، ليتصدى لهم المثل المضحك: “عرس لمزاليط كولو زغاريت”، ويزيد مثل آخر الطين بلة: “دايرين غيطة وشهود على ذبيحة قنفود”.

ينطلق حفل الحناء بطقوس مرعية. تخضَّب فيها يدي ورجلي العروس، بنقش زخارف بديعة تعطي الجلد نضارة طبيعية على أنغام “حنة وحناني أيا بياضي حنيو للالة، للالة العروسة فالجاه العالي..”. وتتبرك “العواتق” بنقش خفيف، في أجواء لا تخلو من دعابة، كدعائهن ” الله يعطينا راجل بلا حبابو، يكون ملوي فكساتو، لا يماه لا خواتو”. وتُشبَّه العاتق ب” الماشطة مع كل عروسة كتحني”…

ينتهي حفل الحناء بتقديم وجبة عشاء فاخرة، مهداة من أم العروس، تتكون من الدجاج المحمر واللحم بالبرقوق، “إوا شكون داها فيك أ لعدس نهار العرس”.

يوم السبت تقام عند الظهر حفلة خاصة بالنساء تسمى”الجلوة”. كما ينظم أهل العريس ليلا حفل “التقصيص”، يُحلق فيه شعر وذقن العريس بحضور ضيوفه، على قفشات أصدقاءه. فهذا يغيضه شامتا لدخوله السجن الذهبي، وزوال عهده بالحرية والاستقلال، وبزوغ فجر حجره وحمايته المدبرة بتسلط بين النسيب والنسيبة، وتسلطن الزوجة. بينما صديقه الحافظ لسره منذ العهد البائن أيام “تازوفيرت”، فيغيضه بفضح بعض أسراره بين الأصدقاء محاولا طبعا إحراجه، متلفظا : ” كان عايش غير بالقمقومة والسكبي والريح فالتسريح وخدا للاتي ومولاتي”، بينما صاحبه الخبيث يقاطعه :” شحال هو يختار وجاب موكة للدار”، ليقفز أخ العريس مستدركا : ” ثلاثة يعمرو الدار، الحرث بالغبار والفحول الصغار وزواج بنت الكبار”.

تتواصل الأفراح طيلة الليل على أنغام الطبالة والغياطة وأجواق الموسيقى الأندلسية والأغاني الشعبية المغربية. وهنا تظهر “المرزنة من للي كتطير من المقلة” حتى قيل فيها : ” ملي غيط الغياط بانت العاقلة من الزايطة”. والعرس الباذخ “شاط فيه الخير حتى رماوه فالبير”.

يكلل الحفل بطلعة العروس مرتدية “التخليلة” المكونة من تقشيطة حريرية لونها عاجي أو أبيض. والتخليلة ثوب شفاف يلف حول صدر العروس ويمد جزء منه فوق كتفيها. وعلى رأسها وضع تاج ذهبي وعلى نطاقها لُفت “مضمة من الذهب أو حزام الصم الحر، وحلي أخرى كالشوكة بالجوهرة الخضراء، و”الزواهك المدلية”. بينما المباركات السعيدات بالمشهد الجميل يرددن” ما شاء الله” وأخريات غير راضيات يلكن لسانهن مرددات في جوفهن:” الله يعطينا سعد الخايبات”..”إوا للي عندها المال والديور لا تبور”..” هاد لعريس الخايب فلوسو يغطيوْ كفوسو” على كل حال الزواج سترة، ومن الأليق للعروس “الزغبية الكعبية تبقى شادا فزنطيط الكلب حتى يقطع بها الواد”..”كل فولة مسوسة كيجيب لها الله فروج أعور”.

طبعا لا أعتقد أن بعض” الحضارات” قد تلفظن بمثل هذا الكلام، لكن الضرورة الشعرية فرضت علي استعراض هذه الأمثلة الشعبية بكذا مشهد… حتى إن افترضنا أن مثل هذه المواقف صادرة عن بعضهن فلا شك أنهن من “الحضارات بلا عراضة” اللواتي ينطبق عليهن المثل”عرس لالة حلابة ألبس و أجي دابا”. أو المعروضات في آخر لحظة، في رسالة مشفرة من أهل العريس أو العروس المراد بها عدم الرغبة في حضور تلك المدعوات من الأصل، عملا بالمثل” المعروض فنهارو يبقى فدارو”. لكن منهن من تحضر بالرغم من ذلك، ليتصيدن كل صغيرة وكبيرة، ويتحالفن مع الحاسدات بالسليقة ” إوا للي خلاه الجدري يكملو بوحمرون”.

ولابد من الإشارة إلى إحدى”الحضارات” سامحها الله، تأتي للعرس قبل الوقت المحدد، فقط لأن “العرَّاضة قالت لها من باب الصواب…وأجي بكري”. فانطبق عليها المثل: ” قالوا لها بْكْري تاكلي الشفنج، صلات الصبح وجات”. وزد على هذا” جايا بقطوطها وفيرانها “.

في وقت متأخر تأخذ العروس لبيت زوجها، وأهله يرددون”عطيونا ديالنا نمشيو بحالنا”. تنتهي تقاليد العرس ب”الصبوحي”، وسيكون عنوان موضوع آخر، لما يعكسه من قيم مجتمعية، وردود أفعال حول هذه العادة القديمة.

وبعد انقضاء شهر العسل، تسقط كل الأقنعة المزيفة، فإذا كان الحب والود يسود الأجواء بين الزوجين، فقد صدق أبو العروس الذي اتبع النصيحة الغالية:” يلا بغيتي تصون عرضك وتلمو زوج بنتك للي عينيها منو”. أما إذا انكشف العريس على حقيقته فالعياد بالله يبدأ التلفظ بكلام العيب: “مسخوط مراتو متعرف وجهو من قفاتو. هو أصلا ما تدْخلوش من الشتا وما يتهزش حتى باللقاط، ومعاشرة لكلاب لا بد فيها من عضة ناب. وللي كسب قشابة بعد عراه يمشي ويتلفّْت وراه.

للأمانة لم يسبق لي أن سمعت أن عرسا سلاويا من زمن الأجداد، بدأ “بالله الله وسالا بتشراك لبنادر”، وأن العروس بقيت مسكينة بارزة كاليتيمة، على حد المثل” فسبوع ليتيمة هرب الطبال من المدينة”.

ولابد من رأي في ذلك ل”شاريين لسواق” الذين أجزموا على مزاجية العروس وعدم تعاملها بأدب مع حماتها، والسبب ينبع من اعتقادها الخاطئ بأن “لعروسة ما تحب الحما حتى تبياض ديك الفحمة”. وأن الحماة تفسد الحب الذي يجمعها بزوجها :”سيدي يْملَّس ولالة تهرس”.

هذه الأمثال الشعبية تعكس التفاعل والتجاذب الذي كان يسود المجتمعات. لكنني لا أعتقد بأن صورها كانت في أرض الواقع بالحجم والحدة التي طرزت بها لغة التعابير. بل هي حكم تترجم تراكمات تجارب واستنتاجات تكونت مع تعاقب القرون.
ـــــــــــــــــــــ
المراجع العلمية:
(1): مؤلف “مظاهر التأثير الحضاري الأندلسي الموريسكي في المجتمع المغربي” – الكتاب: الأستاذ المنتصر مصطفى. ص 220-221-222.
(2): مؤلف “المرأة السلاوية 1666-1912 ” -الكاتب د محمد السعديين. ص 46-47-48.
(3): 1700 مثل من الأمثال المغربية- محمد بن أحمد اشماعو.
(4):مائة وألف مثل من الأمثال الشعبية المغربية.المجموعة الأولى- محمد بن أحمد اشماعو.
الشكر موصول لأستاذي محمد بلحسن الذي مكنني من المؤلفين رقمي 3 و4