يسار عارف
في تاريخ علم الكلام الإسلامي، تمثل الأشعرية والمعتزلة مدرستين مركزيتين شكّلتا معالم التفكير العقدي لقرون طويلة. وعلى الرغم من اختلاف المنطلقات، فإن كليهما نشأ داخل الوسط الإسلامي بهدف الدفاع عن العقيدة، والرد على الخصوم، وتأصيل الإيمان على أسس عقلية أو نقلية أو مزاوجة بينهما. وقد يُخيّل للقارئ المعاصر أن الخلاف بين المدرستين يقود إلى طريق مسدود، غير أن مراجعة دقيقة لأصول كل منهما تفتح باب التساؤل الجاد: هل ثمة إمكانية للقاء بين هذين التيارين؟ وإن وُجد هذا اللقاء، فعلى أي أساس يمكن أن يُبنى؟
أسست المعتزلة خطابها الكلامي على تعظيم دور العقل، واعتمدت عليه في تقرير العقائد الأساسية، معتبرة أن العقل قادر على إدراك التوحيد والعدل ومعرفة الحسن والقبح، حتى قبل ورود الشرع. وهي بهذا المنهج جعلت العقل حَكمًا في تأويل النصوص، بل ومقدّمًا عند التعارض. وبهذه الروح العقلية فسّرت صفات الله، فنفت ما رأت أنه يؤدي إلى التشبيه والتجسيم، وقررت أن الصفات ليست زائدة على الذات، وإنما تعبير عن الذات نفسها. كما أكدت أن أفعال العباد مخلوقة لهم، وأن العدل الإلهي يقتضي أن لا يُحاسب العبد إلا على فعل هو من صُنعه، وليس من خلق الله.
في مقابل ذلك، قامت الأشعرية على نوع من التوازن بين النص والعقل، لكنها منحت النصوص الشرعية مكانة عليا، وجعلت مهمة العقل أن يفسرها لا أن يُحاكمها. أثبت الأشاعرة الصفات الإلهية كما وردت في النصوص، مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه، فلجؤوا إلى التأويل عند الضرورة، وأقروا بأن أفعال العباد مخلوقة لله، لكن العبد يكسب فعله بما يرفع عنه الجبر الظاهر. كما رأوا أن العقل لا يُدرك الحسن والقبح إدراكًا حاسمًا، بل الشرع هو الذي يحدد ذلك. وفوق ذلك، أكدوا أن الله لا يجب عليه شيء، وأنه لا يُسأل عما يفعل.
رغم هذا التباين، لا يمكن تجاهل المساحات الواسعة من الاتفاق بين المدرستين، فكلاهما نفى التجسيم، ورفض الفهم الظاهري للنصوص، وخاض معارك فكرية ضد الاتجاهات التي أخرجت العقل من ساحة النظر العقدي. بل إن كلًا من المعتزلة والأشاعرة قدّما منظومات كلامية متماسكة في زمانهما، وساهما في بناء العمق المعرفي الإسلامي، ودافعا عن العقيدة أمام الفلاسفة والملاحدة وأصحاب الديانات الأخرى.
من الناحية التاريخية، تعمّق الخلاف بين المدرستين بفعل الظروف السياسية. فحين تبنّت الدولة العباسية مذهب المعتزلة زمن المأمون، وقع ما عُرف بفتنة خلق القرآن، وأُجبر العلماء على القول بخلق القرآن. ومع تعاقب الدول، تراجعت المعتزلة، بينما أصبحت الأشعرية المذهب السائد في المدارس السنية، وتحولت من تيار مناهض إلى مذهب رسمي، خاصة في العهد السلجوقي والعثماني.
في العصر الحديث، لم تعد الخلافات القديمة تثير حماسة النزاع كما في السابق، وبرزت أسئلة جديدة تتعلق بمكانة الدين في العالم المعاصر، وعلاقة النص بالعقل، ومفهوم الحرية، وموقف الإسلام من الحداثة. هذه التحديات تفرض علينا إعادة النظر في مناهجنا الكلامية، لا بهدف طمس الخلافات، بل بهدف تجاوز الجمود الذي جعل من علم الكلام حقلًا مغلقًا يعيد إنتاج نفسه.
وعليه، فإن إمكان اللقاء بين الأشعرية والمعتزلة لا يعني ذوبان الفوارق، وإنما قيام نوع من الحوار المعرفي المنفتح، الذي يدرك أن الخلاف العقدي لا يعني القطيعة، وأن الثراء الكلامي يمكن أن يكون مصدر قوة إذا تم استثماره بطريقة منهجية. فالعقل الذي خدم الأشاعرة في تأويل الصفات، هو ذاته الذي استخدمه المعتزلة في تأصيل العدل. والتأويل الذي مارسه الطرفان، وإن اختلفت منطلقاته، يُظهر وجود مرونة داخل النص الديني ذاته في التعامل مع المفاهيم المتعددة.
اللقاء الممكن بين المدرستين إذن ليس في توحيد العقائد، بل في استعادة الوظيفة الأصلية لعلم الكلام، أي الدفاع العقلاني عن الإيمان في ضوء المتغيرات المعاصرة، ومواجهة الأسئلة التي لم تكن مطروحة من قبل: مثل العولمة، والعدالة الكونية، ونقد الدين، وقضايا الإنسان المعاصر.
إن الفكر الإسلامي لا يحتاج إلى توحيد مذاهبه بقدر ما يحتاج إلى تنشيطها، وإخراجها من الكتب المغلقة إلى فضاء الحوار العقلي المتجدد. والمعتزلة والأشاعرة، بوصفهما مدرستين تاريخيتين عظيمتين، يمكن أن يُسهما معًا، رغم الخلاف، في صياغة خطاب إيماني معاصر، يؤمن بالتعدد، وينفتح على العصر، دون أن يفقد جذوره.