تحرير: يسار عارف
تلعب الأرثوذكسية دورًا محوريًا وعميقًا في الحياة الروسية، ليس فقط بوصفها ديانة يتبعها الملايين، وإنما كعنصر مركزي في تشكيل الهوية الثقافية والوطنية لروسيا عبر قرون طويلة. فمنذ أن اعتنق الأمير فلاديمير الأول المسيحية الأرثوذكسية من بيزنطة في نهاية القرن العاشر، أصبحت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية جزءًا لا يتجزأ من النسيج التاريخي والروحي للبلاد. وقد أثّرت هذه الديانة في الأدب والفن والموسيقى والعمارة الروسية، كما كانت حاضرة بقوة في تفاصيل الحياة اليومية للسكان.
خلال العصور القيصرية، ارتبطت الكنيسة بالسلطة بشكل وثيق، حيث اعتُبرت دعامة للإمبراطورية ودين الدولة الرسمي، وأدت دورًا مهمًا في تثبيت الشرعية السياسية والهيبة الإمبراطورية. ومع وصول الحكم الشيوعي في عام 1917، دخلت الكنيسة في مرحلة قمع ممنهج، حيث أُغلقت آلاف الكنائس والأديرة، وتعرض رجال الدين للاضطهاد والسجن، بل والإعدام في كثير من الأحيان. ومع ذلك، لم تنقطع صلة الناس بالإيمان، بل بقيت الأرثوذكسية كامنة في وجدان الكثير من الروس، وعادت لتظهر بقوة مع سقوط الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات.
في روسيا الحديثة، استعادت الكنيسة الأرثوذكسية موقعها بقوة، بل وأصبحت شريكًا غير رسمي في الحكم. تشارك الدولة في تمويلها، وتمنحها مكانة متميزة مقارنة بالديانات الأخرى، وتستعين بها في كثير من الأحيان لترسيخ قيم تقليدية تتماشى مع خطاب وطني محافظ. وفي المقابل، تدعم الكنيسة السلطة السياسية وتمنحها شرعية دينية وأخلاقية، وتظهر هذا الدعم بوضوح في المناسبات العامة، حيث يظهر رجال الدين إلى جانب الرئيس والمسؤولين الكبار، مما يعكس تداخل الدين بالسياسة بشكل غير مباشر لكنه ملموس.
تؤدي الكنيسة أيضًا دورًا ثقافيًا وتربويًا مهمًا، حيث تم إدخال مفاهيم الأرثوذكسية إلى بعض المناهج الدراسية، وتشارك المؤسسة الدينية في النقاشات المجتمعية المتعلقة بالأخلاق، والأسرة، والهوية. وهي غالبًا ما تتبنى مواقف محافظة تعارض الليبرالية الغربية، وتؤكد على أهمية القيم التقليدية، مثل الزواج بين رجل وامرأة، ومعارضة الإجهاض، والحفاظ على الروحانية الروسية في وجه التغريب الثقافي.
لكن هذا الدور القوي لا يخلو من الجدل، فالكنيسة تُنتقد أحيانًا بسبب علاقتها الوثيقة بالسلطة، ولما يُنظر إليه كافتقار للحياد الديني. كما أن تدخلها في شؤون الدولة والمجتمع يثير قلق بعض الفئات، خاصة أولئك الذين يؤمنون بضرورة الفصل بين الدين والسياسة. كذلك واجهت الكنيسة تحديات خارجية، لا سيما مع إعلان الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية استقلالها عن موسكو في عام 2018، وهو ما شكّل أزمة كبرى في العالم الأرثوذكسي، وأثر في العلاقات بين روسيا وجيرانها.
مع كل هذه التحولات، تظل الأرثوذكسية قوة حاضرة بعمق في المشهد الروسي، فهي ليست مجرد طقوس دينية بل هي تعبير عن هوية جماعية ممتدة عبر الزمن، وهي أيضًا أداة للتأثير السياسي والثقافي، تستخدمها الدولة لتثبيت سلطتها داخليًا، ولتمرير خطابها القومي خارج حدودها. ورغم ما تواجهه من تحديات، تبقى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من أكثر المؤسسات رسوخًا في المجتمع الروسي، وأحد الأعمدة التي تقوم عليها فكرة “الروح الروسية” التي يسعى كثير من الروس، دولة وشعبًا، إلى الحفاظ عليها وتعزيزها في عالم يتغير بسرعة.