14 أغسطس 2025 / 11:07

الأديان السماوية وتحديات “ديانة الأموال”

سليمة عبد الجليل بنجلون. باحثة مغربية متخصصة في التاريخ. تقيم في أمريكا

 

في قلب التجربة الإنسانية، حيث تتقاطع المعتقدات الدينية مع الانتماءات القومية، وحيث تُرفع الشعارات الكبرى باسم العدالة أو الإيمان أو الشرف، تبرز مقولة فولتير “عندما يتعلق الأمر بالمال، الجميع يعتنق نفس الدين” كمرآة عاكسة لمفارقة أخلاقية وتاريخية عميقة، إذ يكشف هذا القول، في بساطته الظاهرية، عن أحد أعمق الثوابت في السلوك الإنساني: أن الحواجز العقائدية، والاختلافات الطائفية، والصراعات الأيديولوجية، جميعها يمكن أن تذوب أو تتلاشى عندما يدخل المال – بسلطته الناعمة والخشنة – على خط المعادلة.

المال ليس فقط وسيطا للتبادل أو أداة لقياس القيمة الاقتصادية، بل هو بنية رمزية واجتماعية وسياسية تتجاوز في فاعليتها معظم الأنساق الثقافية، حتى بات في المجتمعات الحديثة أشبه بـ”الدين الخفي” الذي تُصاغ وفقه القيم وتُعاد صياغة الولاءات، وهذا لا يعني أن فولتير – الفيلسوف المستنير الذي عاش في القرن الثامن عشر – كان يختزل كل أبعاد الوجود الإنساني في المصلحة المادية، لكنه كان واعيا بأن الاقتصاد، في أبعاده الفردية والجماعية، يشكل القاعدة المادية التي يمكنها قلب أكثر القناعات رسوخا.

التاريخ الإنساني مليء بالأمثلة التي يتصافح فيها أعداء الأمس على طاولة التجارة، ويتقاسم فيها الخصوم الموارد والأسواق، وتبرم فيها التحالفات العابرة للقارات من أجل النفط أو الذهب أو التوابل أو حتى العملات الرقمية اليوم.

لعلنا نجد في هذا القول صدى مبكرا لما سيبلوره كارل ماركس لاحقا في تحليله للمجتمع الرأسمالي حين اعتبر أن البنية التحتية الاقتصادية هي التي تحدد البنية الفوقية السياسية والفكرية، إذ يصبح الدين، والقانون، والفن، والفلسفة، خاضعة في النهاية لشروط الإنتاج والتوزيع، فالمال، في هذا المنظور، ليس مجرد وسيلة، بل هو جوهر السلطة الحديثة، ومن هنا يمكن قراءة التحالفات بين قوى دينية متباينة حين يتعلق الأمر بالاستثمارات أو التحكم في طرق التجارة أو أسواق الطاقة، تماما كما يمكن أن نفهم كيف استطاعت الشركات العابرة للقوميات أن تتجاوز الحدود السياسية وتعمل في بلدان متصارعة أيديولوجيا، فشركات السلاح، على سبيل المثال، تمد الجانبين المتحاربين بما يحتاجانه في وقت واحد، ما دامت الأرباح مضمونة، وهو ما يجعل المال يبدو كـ”لغة كونية” يفهمها الجميع ويتواصلون بها بلا مترجم.

إذا ما أمعنا النظر في التجربة المعاصرة سنجد أن الأزمات العالمية – من الركود الاقتصادي إلى جائحة كورونا – أظهرت أن القرارات الكبرى للدول تتخذ أحيانا ليس بناء على اعتبارات أخلاقية أو إنسانية، بل وفق معادلة الربح والخسارة، وهذا يفسر كيف أن القوى العظمى يمكن أن تعاقب دولا باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما تغض الطرف عن انتهاكات جسيمة في دول أخرى لمجرد أن لديها مصالح اقتصادية معها.

بل إن الأديان نفسها، التي يفترض أنها تضع المال في مرتبة أدنى من القيم الروحية، قد شهدت عبر التاريخ أشكالا من التكيف مع متطلبات السوق، فنجد المؤسسات الدينية تدخل في أنشطة اقتصادية ضخمة، وتستثمر في العقارات أو المصارف، وتبرم شراكات مع كيانات علمانية أو حتى ملحدة إذا كان العائد المالي مغريا، وهذه الدينامية ليست جديدة، إذ يمكن أن نرصدها في التجارة عبر طريق الحرير، وفي التنافس البحري بين القوى الأوروبية التي جمعت البروتستانت والكاثوليك والملحدين في أساطيل مشتركة لمهاجمة مستعمرات الآخرين أو السيطرة على موانئهم، كما نجدها في التحالفات الخفية التي نسجتها بعض القوى الإسلامية والمسيحية ضد أطراف ثالثة.

العامل الحاسم لم يكن دائما الإيمان أو العقيدة، بل التدفق المالي الذي يضمن استمرار النفوذ، ويكشف تحليل هذه المقولة أيضا البعد النفسي للمال بوصفه أداة تمنح الأمان والقدرة والسيطرة، إذ يخلق المال شعورا بالتفوق على المخاطر، ويعيد تعريف العلاقات الإنسانية بحيث تصبح الثقة أو العداء مشروطين بالقدرة على تحقيق مصلحة مشتركة.

هنا تذوب الهويات الصلبة أمام إغراء المنفعة، وتتشكل “أمة” عابرة للحدود من المستثمرين والمضاربين ورجال الأعمال والساسة الذين يجتمعون حول مائدة واحدة رغم تناقضاتهم المعلنة، وفي المقابل، يمكن النظر إلى هذا الواقع كإدانة صريحة لضعف المبادئ أمام ضغط الحاجة أو الطموح، إذ تتحول القيم إلى شعارات مرنة يعاد تشكيلها لتبرير أي صفقة أو تحالف، ما دام المقابل المالي كافيا، وهذا ما يجعل من مقولة فولتير ليس فقط ملاحظة ساخرة عن طبيعة البشر، بل تحذيرا من أن اختزال العلاقات الإنسانية في بعدها المالي قد يقود إلى عالم تتحكم فيه حسابات الربح والخسارة وحدها، دون اعتبار للعدالة أو الكرامة أو التضامن.

بالرغم من ذلك، فإن قوة هذه الفكرة تكمن في واقعيتها، فهي لا تنكر وجود المثل العليا، لكنها تكشف هشاشتها أمام سطوة الذهب، وفي زمن العولمة حيث تتشابك الاقتصادات وتتعولم الأسواق، يصبح المال حقا الديانة المشتركة الوحيدة التي يمكن أن يتعبد في محرابها الجميع، من دون أن يضطروا لتغيير أسمائهم أو معتقداتهم، لأن الإيمان هنا لا يُقاس بالطقوس، بل برصيد الحساب البنكي، وبتلك المفارقة العارية من الوهم، تنغلق دائرة النقد الفلسفي لفولتير على حقيقة أن البشر، مهما ارتفعت شعاراتهم، يعودون في النهاية إلى عبادة الصنم الأبدي: المال.