عبد الإله زيات
حين نفكر في الأحكام الأخلاقية أو الجمالية لا نفكر في الجسد بل نتوهم أن الذوق أو الخير ينبعان من العقل أو الروح كأننا نؤمن ضمنيا بأن الجسد أداة صماء محايدة مع أن كل استجابة نفسية فينا تمر عبر جسدنا وكل ما نراه جميلا أو بشعا يمر أولا عبر اهتزازات في عضلات الوجه عبر توتر الجهاز العصبي وارتجاج القلب ثم نحكم.
علم النفس الجسدي أو ما يسمى بالبسيكوفيزيولوجيا يؤكد أن الانفعال ليس فكرة بل شبكة متكاملة من الاستجابات الكهربائية والهرمونية والتنفسية المتزامنة مع الوعي ولهذا فإن الإنسان الموسوس أخلاقيا أو جماليا لا يعاني فقط من فكرة مزعجة بل من جهاز عصبي يتعامل مع هذه الفكرة كأنها تهديد داخلي مستمر.
الوسواس القهري مثال على هذا التداخل العميق بين النفس والجسد حيث يصبح الإنسان أسير تكرار الفعل لا لأن الفعل نفسه مهم بل لأن التوتر الجسدي يخف مؤقتا بعد القيام به لهذا يرى علماء مثل Sapolsky وKandel أن الوسواس ليس خللا في المنطق بل في نظام التفاعل الفيزيولوجي مع القلق وهذا ما يفسر لماذا الوسواسي لا يرتاح حتى وهو يعلم بأن ما يفعله غير عقلاني
في كتابه “Beyond Good and Evil” أشار نيتشه إلى أن الأحكام الأخلاقية ما هي إلا أعراض لحالات نفسية بيولوجية فالعاقل لا يقول هذا خير أو شر لأنه قرأ كتابا بل لأن جهازه العصبي قد تدرب على هذه الاستجابات منذ الطفولة في بيئة ثقافية خاصة.
نيتشه اعتبر أن الضمير ليس صوتا باطنيا بل نتيجة تمرينات طويلة على الطاعة والخوف ولهذا فإنه يرى في من يعاني من تأنيب الضمير المرضي شخصا يحوّل الغريزة الطبيعية إلى ألم داخلي لأن قواه الحيوية موجهة ضد نفسه لا ضد العالم.
الذوق نفسه لا ينفصل عن البنية العصبية فكل جمال نراه هو في النهاية تفاعل بسيكوفيزيولوجي بين إدراك بصري وذاكرة انفعالية وجهاز عصبي مشحون ولهذا فإننا لا نتفق على الجمال ولا على الأخلاق لأن أجسادنا ليست متشابهة ولا انفعالاتنا.
إذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم كيف يتجسد حكمه على الأشياء في داخله كيف يشعر بالخوف قبل أن يصدر حكمه الأخلاقي كيف يرتعش قلبه قبل أن ينفر من منظر أو سلوك كيف أن من يهاجم الرذيلة أحيانا يفعل ذلك لأنه لا يتحمل جسديا مجرد تخيلها.
كل من ينادي بالفضيلة ربما عليه أولا أن يطرح على نفسه سؤال نيتشه الجارح هل حقا تقول هذا لأنك قوي أم لأنك ضعيف ومقموع داخليا ولهذا تمارس الأخلاق كحيلة لحماية ضعفك.
الوسواس ليس رأيا متطرفا بل جسد هش يعيش في دوامة توتر وعقاب ذاتي وهذا ما يفسر وجود وسواس الطهارة عند المتدينين ووسواس النظافة عند المصابين بالقلق القهري فكلها محاولة للسيطرة على قلق داخلي لا يُحتمل بتحويله إلى طقس خارجي شكلي.
لا معنى للحكم الجمالي دون الرجوع إلى علم الجسد ولا جدوى من نقاش أخلاقي دون تفكيك البنية العصبية للانفعال لا قداسة لفكرة لم تمر عبر نبض القلب ولا قبح لشيء لم يحرّك الجهاز العصبي.
نحتاج إلى إعادة تأهيل الوعي لفهم أن الإنسان ليس عقلا مفصولا بل جسد مفكر وأن الخوف والانفعال هما أساس كل ذوق وكل حكم وكل إيمان.