افتتاحية.. العدل والإحسان بين المثالية السياسية وغياب المشروع الواقعي

عمر العمري
آراء ومواقف
عمر العمريمنذ ساعتينآخر تحديث : الأربعاء 22 يناير 2025 - 6:58 صباحًا
افتتاحية.. العدل والإحسان بين المثالية السياسية وغياب المشروع الواقعي

يبدو أن تصريحات الدكتور “عمر أمكاسو” (عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان) الأخيرة تعكس ازدواجية فكرية واضحة، تضع جماعة العدل والإحسان في مأزق بين خطابها المثالي وشروط الواقع السياسي، فمن جهة، تحاول الجماعة أن تقدم نفسها كقوة سياسية معارضة مسؤولة، تتبنى خطابا ديمقراطيا يراعي مبدأ الإرادة الشعبية، لكنها في الوقت ذاته تتمسك بسردية دينية ترى أن “الملك الوراثي” انحراف تاريخي ينبغي تصحيحه.

وتكشف هذه المفارقة تناقضا جوهريا في طرحها، حيث تدعي الالتزام بمبادئ الديمقراطية، لكنها تحتكم إلى رؤية دينية ترى في “الخلافة على منهاج النبوة” النموذج المثالي للحكم، والسؤال هنا: أي ديمقراطية تريد الجماعة؟ هل هي الديمقراطية القائمة على الإرادة الشعبية الحرة؟ أم الديمقراطية المؤطرة بتصورها الإيديولوجي المسبق، الذي يفترض أن هناك “حتمية تاريخية” تعيد الأمة إلى “الخلافة”؟

وحينما يتحدث “أمكاسو” عن أن “الأسماء لا تهم، بل المضمون”، فإن هذا الطرح يبدو في ظاهره براغماتيا، لكنه في عمقه يعكس غياب رؤية واضحة للحكم الذي تسعى إليه الجماعة، حيث إن الديمقراطيات المستقرة لا تقوم على الغموض أو التأجيل، بل على وضوح المشروع السياسي، فكيف يمكن للفاعل السياسي أن يطالب بإصلاحات ديمقراطية، بينما يرفض مبدأ الملكية الوراثية جملة وتفصيلا؟

إذا نظرنا إلى الفكر السياسي نفسه، فإن رفض “الملكية الوراثية” كفكرة، دون مراعاة طبيعة النظام السياسي ككل، يعكس موقفا إيديولوجيا أكثر من كونه تحليلا سياسيا واقعيا، لأن التداول السلمي للسلطة لا يرتبط بنوع النظام، سواء كان ملكيا أو جمهوريا، بل يعتمد أساسا على وجود مؤسسات ديمقراطية قوية، ودستور يكفل الحقوق والحريات، وقضاء مستقل يضمن العدالة.

ومن يتبنى النهج الإصلاحي (وليس الجذري) يكون منسجما مع ذاته عندما يسعى إلى إصلاح المؤسسات، تعزيز الديمقراطية، والدفاع عن حقوق المواطنين، بل إن ذلك يصبح واجبا عليه، لكن “أمكاسو” اختار أن يضع الملكية في خانة واحدة مع الاستبداد، ليس استنادا إلى معايير ديمقراطية واضحة، بل لأنها لا تتماشى مع قراءته التاريخية للإسلام السياسي.

إن رفض الجماعة للملكية الوراثية لا ينطلق من تحليل سياسي نقدي مبني على تقييم المؤسسات، بل يقوم على سردية دينية تاريخية ترى أن الحكم الإسلامي “انحرف” منذ قرون، وأن الحل الوحيد هو العودة إلى “الخلافة الراشدة”، وهذا الطرح ليس فقط تبسيطيا، بل يتجاهل تماما التحولات العميقة التي طرأت على النظم السياسية الحديثة، والحال أن الديمقراطية لا تقوم على مفاهيم “الخلافة”، بل على مبادئ المواطنة، دولة المؤسسات، وسيادة القانون، وبالتالي، فإن استدعاء مفهوم “الملك الجبري” أو “الملك العضوض” كإطار تفسيري للوضع السياسي المعاصر هو ضرب من الانغلاق الإيديولوجي الذي يعيق الجماعة عن تطوير رؤية سياسية ناضجة يمكنها أن تنافس داخل الفضاء السياسي العمومي.

ولا تكمن المجازفة في هذا الطرح فقط في كونه يرفض “الملكية الوراثية”، بل في أنه يفتح الباب أمام تصور مغلق لطبيعة الحكم البديل، فحينما تتحدث الجماعة عن “التغيير”، فإنها لا تقدم تصورا واضحا لآليات هذا التغيير وحدوده، هل مثلا ستقبل الجماعة بنتائج الديمقراطية حتى لو أفرزت نظاما ملكيا دستوريا مستقرا؟ أم أنها ترى في الديمقراطية مجرد مرحلة انتقالية نحو تحقيق مشروعها النهائي؟ هذا الغموض هو ما يجعل الجماعة دائما في موضع مبهم، ويؤكد أن مشكلتها ليست مع الاستبداد، بل مع أي نموذج للحكم لا يتوافق مع تصوراتها المسبقة.

أما فيما يخص العلاقة بين السلطوية والتنمية، فإن “أمكاسو” يعتمد على خطاب إيديولوجي تقليدي يعيد إنتاج أطروحة أن “الاستبداد هو العائق الوحيد أمام التنمية”، وهو طرح يتجاهل تعقيدات الواقع السياسي والاقتصادي، ولا يمكن إنكار أن الديمقراطية تعزز فرص التنمية، لكن العلاقة ليست بالبساطة التي يقدمها خطاب الإسلام السياسي، فهناك أنظمة غير ديمقراطية استطاعت تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة (كوريا الجنوبية، الصين، سنغافورة، الامارات العربية..)، وهناك أنظمة ديمقراطية تعاني من أزمات اقتصادية خانقة (اليونان، ايطاليا، اسبانيا..).

إن اختزال القضية في ثنائية “الاستبداد ضد التنمية” هو تعميم مخل يتجاهل السياقات التاريخية والاجتماعية لكل دولة، ويظهر أن المشكلة ليست في وجود نظام سلطوي فقط، بل في غياب رؤية اقتصادية متكاملة، وهو ما لا تملكه الجماعة نفسها، فكيف أنها لا تمتلك تصورا اقتصاديا متكاملا وبالرغم من ذلك تدعي أنها تقدم بديلا للنظام الحالي؟ يمكن أن يستاءل أي باحث: أين هو النموذج الاقتصادي الذي تطرحه العدل والإحسان؟ وكيف ستدير الاقتصاد الوطني خارج إطار الدولة الحديثة؟ هذه الأسئلة الجوهرية لا تجد إجابة في خطاب الجماعة، لأنها مشغولة بإدانة السلطة أكثر من انشغالها بتقديم حلول حقيقية.

يبدو (في نظرنا) أن جماعة العدل والإحسان تعاني من تأزم فكري في التعامل مع الوقائع السياسية والاجتماعية المحدثة، فهي لا تزال أسيرة تأويل ديني للتاريخ (رجعي) يحكم على الحاضر وفق معايير الماضي، والحال أنه لا يمكن بناء مشروع سياسي حديث انطلاقا من مفهوم “الملك الجبري” أو “الخلافة”، ولا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل رفض مسبق لشكل معين من أنظمة الحكم.

ومن يريد الاشتغال بأمور السياسة، فإن هذه الأخيرة لا تقوم على الأمنيات، بل على الممارسة الواقعية، ووالواقعية السياسية تقتضي أن تحدد الجماعة وغيرها، إن أرادت أن تكون فاعلا سياسيا حقيقيا، رؤيتها بوضوح، بعيدا عن الخطاب الملتبس، والمفاهيم التاريخية المبهمة، وعليها أن توضح بشكل صريح ما الذي تريده، وكيف تخطط لتحقيقه.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.