دين بريس ـ سعيد الزياني
عرفت الأوساط الصوفية في السنوات الأخيرة نقاشا متصاعدا، خصوصا في مصر، حول ما أصبح يعرف بـ”البيعة الإلكترونية”، أي إمكانية عقد العهد الصوفي بين الشيخ والمريد عبر وسائط الاتصال الحديثة، مثل تطبيقات المراسلة أو الاجتماعات الافتراضية.
وبالرغم من أن النقاش يبدو للوهلة الأولى تقنيا، إلا أنه يرتبط في العمق بمسائل تتعلق بالهوية الروحية للتصوف، وبقدرة الطرق الصوفية على التكيف مع التحولات الرقمية، وفي الوقت ذاته حماية بنيتها التقليدية من التسيب أو الاختراق.
يتأسس موقف المعترضين على أن البيعة تمثل لحظة مفصلية في علاقة الشيخ بالمريد، ولا تختزل في ترديد كلمات أو نقل نصوص، بل هي عقد معنوي وروحي يقوم على الحضور المباشر والمصافحة والنظر.
هؤلاء يرون أن هذه اللحظة، التي تُعتبر امتدادا لبيعة الصحابة للرسول ﷺ، لا يمكن محاكاتها عبر شاشة أو مكالمة هاتفية، فالعهد الصوفي، في نظرهم، يتجاوز اللفظ إلى أثرٍ قلبي لا ينشأ إلا من حضور فعلي، وأن نقل البيعة إلى الفضاء الرقمي يفرغها من معناها ويهدد جوهر التربية الصوفية.
وقد استند هذا التيار إلى مرجعيات كلاسيكية في التراث، مثل الإمام أحمد زروق الذي أكد أن التلقي الصحيح لا يتحقق إلا بالملازمة والنظر والمجالسة، وأن التربية الروحية لا تكتمل إلا بحضور حي.
وعلى عكس من ذلك، يدافع فريق آخر عن مشروعية البيعة الرقمية باعتبارها امتدادا طبيعيا لوسائل التواصل بين الشيخ والمريد، فالتصوف، وفق هذا الاتجاه، رسالة كونية لا تحدها الجغرافيا، ومن الظلم منع مريد يعيش في أوروبا أو أمريكا من الدخول في الطريق لمجرد عجزه عن السفر.
إضافة إلى أن التاريخ الإسلامي شهد مراسلات بين العلماء وتلاميذهم في الأمصار، حيث كانت الرسائل الورقية وسيلة لنقل الأوراد والتعليمات، ويعتبر هذا الفريق أن الوسائل الحديثة ليست إلا تطويرا للأدوات، شريطة أن يكون الشيخ معروفا بالتزامه، وأن يتأكد من صدق نية المريد.
ولا يخلو هذا التباين بين الرفض والقبول من هواجس أمنية وتنظيمية، فالمعارضون يشيرون إلى أن منح البيعة عبر الإنترنت قد يفتح الباب أمام أفراد غير مؤهلين أو حتى محسوبين على تيارات متشددة لاختراق الطرق الصوفية، كما يخشون من ظاهرة “التنقل” بين الطرق عبر وسائط رقمية، من دون التزام حقيقي، وهو ما قد يفرغ التجربة من بعدها التربوي، وفي حين يرى المدافعون أن هذه المخاطر يمكن احتواؤها عبر ضوابط دقيقة، مثل التأكد من هوية المريد، ومتابعته المستمرة، وتجديد البيعة بالمصافحة عند أول لقاء مباشر ممكن.
على المستوى العملي، اعتمدت بعض الطرق الكبرى حلا وسطا، فقد أجازت الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، على سبيل المثال، عقد البيعة عبر الهاتف أو الإنترنت عند وجود عذر، مع اشتراط تجديدها لاحقاً بالمصافحة. ويكشف هذا التوجه عن محاولة لتحقيق التوازن بين الوفاء للأصل التاريخي وبين التكيف مع واقع عالمي متغير، وفي المقابل، ما زالت طرق أخرى ترفض بشكل قاطع أي بيعة رقمية، معتبرة أن غياب المصافحة يعني غياب السند الروحي الذي يقوم عليه التصوف.
من زاوية سوسيولوجية، تمثل البيعة الإلكترونية نموذجاً لما يسميه الباحثون “رقمنة الطقوس الدينية”، أي انتقال الممارسات من فضاء مادي إلى فضاء افتراضي، وقد شهدت ديانات أخرى ظواهر مشابهة، مثل الصلوات الافتراضية في الكنائس خلال جائحة كورونا. غير أن الفرق الجوهري في الحالة الصوفية يكمن في أن البيعة علاقة تربية روحية عميقة، وهو ما يجعل نقلها إلى الفضاء الرقمي محل تساؤل حول مدى فاعليتها.
وتبرز التجارب أن نقل الأوراد والتعليمات عبر الوسائط الحديثة أمر مقبول وعملي، إذ يمكن أن تصل النصوص والأذكار بدقة إلى المريدين أينما كانوا، غير أن البيعة تختلف في طبيعتها، لأنها ليست نصا فحسب، بل أثرا روحيا يقوم على التواصل المباشر، وبالتالي يكمن الفرق بين نقل الكلمات ونقل الأحوال، فالكلمات قابلة للنسخ واللصق، بينما الأحوال تنشأ من علاقة حية لا يمكن استبدالها بالافتراض.
إلى جانب البعد الروحي، يطرح موضوع البيعة الإلكترونية أبعادا تنظيمية، فالطرق الصوفية لم تعد محصورة في بلدانها الأصلية، بل توسعت إلى الجاليات في الغرب وأفريقيا وآسيا، ومع هذا التوسع، برزت الحاجة إلى أدوات تواصل أسرع وأكثر مرونة، زائد أن هذه الأدوات تطرح تحديا يتعلق بمدى ضبطها، وبالحدود التي ينبغي ألا يتجاوزها التكيف التكنولوجي حتى لا يتحول إلى تهديد لهوية الطرق.
يبدو أن الموقف الوسط، الذي يجيز استخدام الوسائل الحديثة كحل ظرفي عند وجود عذر، مع التمسك بالمصافحة المباشرة كشرط أصيل لإتمام العهد، يعكس توازنا بين الحفاظ على التقليد والانفتاح على الواقع، فهو لا يفرط في الرمزية التاريخية للبيعة، وفي الوقت نفسه لا يغلق الباب أمام المريدين البعيدين جغرافيا.
إن الجدل حول البيعة الإلكترونية يعكس في النهاية توترا قائما بين الأصالة والحداثة داخل التصوف، فالأصالة تقتضي الالتزام بالطقوس التي شكلت جزء من الهوية الصوفية لقرون، بينما تفرض الحداثة واقعا رقميا لا يمكن تجاهله.
وبين الموقفين، تظل الأسئلة مفتوحة: هل تكفي الوسائط الحديثة لنقل العهد الروحي؟ هل يمكن للطرق أن تحافظ على “سرها” في عالم رقمي يختزل الطقوس إلى إشعارات ورسائل؟
الجواب ليس نهائيا، لكنه يكشف أن التصوف، مثل غيره من الظواهر الدينية، مضطر لإعادة التفكير في أدواته التربوية والروحية في ظل الثورة الرقمية، والتحدي الأكبر يكمن في إيجاد صيغة تضمن استمرار جوهر التجربة الصوفية، وتحصينها من التفريغ أو الاستغلال، مع الاستفادة من إمكانات العصر.