محمد عسيلة
في أرقى تجليات الإسلام، تُعد بيوت الله ملاذًا للسكينة، وفضاءً للصفاء الروحي، ومكانًا يجتمع فيه الناس على المساواة في رحاب الذكر والتقوى. في المسجد لا تُرفع المنازل ولا تُقاس القيم بالمظاهر أو الانتماءات، وإنما بالتقوى كما قال الله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. غير أن الواقع في بعض السياقات المعاصرة يشهد انحرافًا خطيرًا عن هذه المبادئ، حين تتحول الجماعة داخل المسجد – التي من المفترض أن تكون نسيجًا متكافلًا من المؤمنين – إلى سلطة غير مرئية تمارس الاستبداد على الأفراد باسم الحفاظ على الوحدة، في حين أنها تزرع بذور التفرقة والتسلط.
في هذا السياق، لا يكون الاستبداد مجرد سلوك فردي ناتج عن طغيان شخص على آخر، بل يتحول إلى ظاهرة جماعية تمارسها مجموعة على أحد أفرادها أو مجموعة فرعية داخلها، تحت غطاء “التماسك الداخلي” أو “الغيرة على الدين”، بينما في الحقيقة تكون الدوافع أحيانًا نفسية بحتة، أو ترتبط بصراعات سلطوية داخلية. وهنا يلعب العقل الجمعي – كما حلّله علماء النفس الاجتماعي – دورًا مركزيًا في كبح حرية الفرد، وإخضاعه لما تسميه الجماعة بـ “الانضباط”، حتى وإن كان ذلك على حساب العدل والكرامة.
إن أخطر ما في هذا النوع من الاستبداد هو تمظهره داخل فضاء مقدس كالمسجد، حيث تتخذ السلطة الاستبدادية صبغة دينية، وتُستخدم مفاهيم كالولاء والبيعة والطاعة لتبرير الإقصاء والتشهير وسوء الظن. فتُطلق أحكام قاسية، وتُشن حملات خفية قائمة على التلميح والبهتان، لإسقاط شخص أو تحجيم صوته، لا لفساده أو انحرافه، بل لمجرد اختلافه أو تهديده لتوازن قوى غير معلن.
وقد حذّر القرآن الكريم من هذا النوع من السلوك الذي يبدأ بسوء الظن وينتهي بالإقصاء، في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضًا…” (الحجرات: 12).
فالإسلام لا يشرّع أبدًا لتفتيت الجماعة باسم الحماية، ولا يُبيح اغتيال السمعة بذريعة الاختلاف.
وقد جاءت الدروس الحسنية، من خلال العلماء والمفكرين، لتؤكد أن العدل ليس فقط أساس الحكم، بل هو أساس التماسك الاجتماعي داخل الجماعة الدينية. ففي أحد الدروس، أشار الأستاذ محمد يسف إلى أن “العدل أساس الملك، والظلم مؤذن بخراب العمران”. فإذا عمّ الظلم داخل المسجد، وانتُهِكت كرامة المصلين أو أهل العلم تحت غطاء “الغيرة على الدين”، فإن الخراب لا يمس فقط الأفراد، بل يطال هيبة المسجد ذاته، ويُفسد الغاية من العبادة الجماعية.
علم النفس الاجتماعي يقدّم لنا تفسيرًا دقيقًا لهذه الظواهر. فكارل ماركس تحدث عن سيطرة البنى الاجتماعية على الوعي الفردي، مما يجعل الفرد يُعيد إنتاج سلوكات الجماعة ولو كانت ظالمة، بدافع الخوف من العزلة. أما جورج هربرت ميد، فقد أشار إلى أن الهوية تُبنى من خلال التفاعل مع الجماعة، مما يعني أن الفرد قد يتنازل عن قناعاته الأخلاقية ليحافظ على مكانته داخل المجموعة، وهو ما نراه حين يصمت البعض عن ظلم يقع أمامهم في بيوت الله، بدلاً من أن يقولوا كلمة حق، خشية الإقصاء.
إن الاستبداد الجماعي داخل المسجد لا يُظهر فقط أزمة قيم، بل يُبرز غياب التربية الروحية العميقة. فحين تغيب التقوى، وتُختزل التدين في المظهر أو الولاء الأعمى، تتحول الجماعة إلى سلطة قمعية تُهدد وحدة الأمة. والمفارقة أن الجماعة التي تدّعي الحفاظ على وحدة المسجد، هي نفسها من تُفرّق الناس، وتمنع روح الأخوة الصادقة من التغلغل في القلوب.
لذلك، فإن مقاومة هذا النوع من الاستبداد لا تكون بالصدام، بل بإحياء روح القرآن والحديث داخل الجماعة، وبالرجوع إلى مبدأ التقوى كميزان وحيد للتفاضل، وبإعلاء شأن العدل والصدق على حساب المظهر والادعاء. كما تحتاج بيوت الله إلى حراس حقيقيين للوحدة، لا أولئك الذين يبنون وحدتهم على إقصاء المختلف، بل من يسعون لاحتواء الجميع تحت مظلة “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.
إن المسجد هو بيت الله، لا بيت جماعة ولا منصة لامتحان الولاءات، وإنما موطن للقلب الخاشع واللسان الصادق. وإنّ الحفاظ عليه من عبث السلطة غير المعلنة واجب شرعي وأخلاقي، لا يقل أهمية عن الصلاة نفسها، لأن الظلم في بيوت الله يُطفئ نورها، ويغلق أبواب الرحمة فيها.
فلنُجدد النية، ولنعيد للمسجد روحه النقية، ولنكن شهود عدل لا شهود زور، فإن الله يحب المُقسطين.
ـــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا