18 سبتمبر 2025 / 16:12

ارتفاع نسبة اللاتدين في المغرب: حقيقة إحصائية أم انعكاس لاختلاف المناهج البحثية؟

دين بريس ـ سعيد الزياني
سجلت دراسة جديدة نشرها موقع The African Exponent، استنادا إلى معطيات المسح العالمي للقيم (World Values Survey)، أن المغرب يشكل حالة استثنائية في القارة الإفريقية من حيث ارتفاع نسبة المواطنين الذين يعرفون أنفسهم كـ”غير متدينين”، فقد كشفت أن 35.8 في المائة من المغاربة يعرفون أنفسهم بأنهم غير متدينين، وهي نسبة مرتفعة جدا مقارنة بمعظم الدول الإفريقية الأخرى، بينما تبقى نسبة من يعلنون الإلحاد صراحة شبه منعدمة، وبهذا، يحتل المغرب المركز التاسع ضمن قائمة الدول العشر الأولى في إفريقيا التي تضم أكبر نسبة من المواطنين غير المتدينين، إلى جانب تونس (34.9%) ومصر (24.7%) وليبيا (23.3%).

ويمكن أن تثير هذه النسبة المرتفعة بعض النقاش حول التحولات الدينية والاجتماعية في المغرب، وإذا كان الرقم بحد ذاته لافتا، فإن أهميته تكمن في أنه يقدم صورة مغايرة للانطباع السائد عن المغرب كبلد ذي هوية دينية متماسكة، تقليديا ومؤسساتيا، في ظل استمرار حضور مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها ضامنة للثوابت العقدية والروحية للأمة.

وتستدعي المعطيات الرقمية قراءة متأنية تتجاوز ظاهر الأرقام إلى تحليل السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي أنتجها، فمن جهة، يمكن اعتبار هذه النسبة مؤشرا على تحولات جيلية واضحة، خاصة في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط ومراكش، حيث تلعب الجامعة والإعلام الرقمي والانفتاح على أنماط حياة كونية أدوارا في إعادة تشكيل تمثلات الشباب للدين.

ومن جهة ثانية، قد تعكس هذه الأرقام فجوة متزايدة بين التدين بوصفه هوية ثقافية واجتماعية مرتبطة بالشرعية السياسية، وبين التدين الفردي الذي يظل متنوعا في أشكاله ودرجاته، وبين هذين البعدين يبرز سؤال محوري: هل نحن أمام تراجع موضوعي في التدين الفعلي، أم أمام إعادة تعريف للانتماء الديني في ضوء الضغوط الاجتماعية والثقافية الحديثة؟

وتكشف المقارنة مع مصادر أخرى عن تباينات لافتة، فالمسح العربي (Arab Barometer) في موجته الأخيرة (2021–2022) أشار إلى أن نسبة من يصفون أنفسهم كـ”غير متدينين” في المغرب لا تتجاوز 6 في المائة، بعدما كانت قد بلغت ذروتها في حدود 13 في المائة خلال موجة 2018–2019، ويعني ذلك أن الاتجاه لم يكن تصاعديا بالضرورة، بل عرف تذبذبا مرتبطا بسياقات معينة مثل الحراك الاجتماعي أو جائحة كوفيد التي ساهمت في إعادة الاعتبار للخطاب الديني في المجال العام.

أما تقارير مركز بيو للأبحاث، فقد ظلت تؤكد أن المغرب يندرج ضمن البلدان الأكثر تمسكا بالتدين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سواء من خلال أهمية الدين في الحياة اليومية أو من خلال نسب الممارسة التعبدية كالصلوات والصيام، هذا التباين يطرح سؤالا حول طبيعة المؤشرات المعتمدة والمنهجية المستعملة في قياس التدين أو اللادينية.

ويجد الاختلاف بين نتائج The African Exponent والمسوح الأخرى تفسيره في مسألة التعريفات، فحين يسأل المسح العالمي للقيم عن كون المستجيب يعتبر نفسه “شخصا متدينا” أو “غير متدين”، قد يشمل خيار “غير متدين” طيفا واسعا يتراوح بين من لا يمارس الشعائر بانتظام، ومن يحتفظ بإيمان شخصي دون التزام مؤسسي، وصولا إلى من يبتعدون كليا عن الممارسة الدينية.

يمكن الإشار إلى أن المسح العربي يستخدم مقاربة أدق تميز بين مستويات التدين واللادينية المعلنة، ما يجعل نسبة “غير متدين” فيه أدنى بكثير، كما أن التصريح بالانتماء إلى خانة “غير متدين” قد يتأثر بالسياق السياسي والاجتماعي، ففي مجتمعات محافظة مثل المغرب، يظل إعلان الإلحاد العلني نادرا بالنظر إلى كلفته الاجتماعية والقانونية، بينما يمكن للمرء أن يصف نفسه بغير المتدين دون أن يعني ذلك رفضه للإيمان.

ويضيف السياق المغربي طبقات أخرى للفهم، فالمغرب دولة دينية بامتياز من حيث البنية الدستورية والمؤسساتية، إذ يستمد النظام السياسي جزء كبيرا من شرعيته من مؤسسة إمارة المؤمنين، حيث يعتبر الملك ضامنا لوحدة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، هذا الإطار يجعل الهوية الدينية جزء من الانتماء الوطني، ما يفسر أن الفجوة بين التدين المعياري المعلن والتدين الفعلي قد تتسع دون أن يظهر ذلك على السطح في المجال السياسي أو الإعلامي.

وبالتالي، فإن ارتفاع نسبة “غير متدين” في دراسة ما لا يعني بالضرورة تقويض الأساس الديني للدولة، وإنما قد يشير إلى مسارات فردية متباينة في التعامل مع الدين بوصفه ممارسة يومية.

وتلعب العوامل الاجتماعية دورا محوريا في تفسير هذه الأرقام، ذلك أن الشباب الحضري، المتأثر بالعولمة الرقمية والتعليم العالي والاحتكاك بالثقافات الغربية، أكثر استعدادا لتبني هويات مرنة أو بديلة عن الهوية الدينية التقليدية، ويظهر ذلك في النقاشات الافتراضية على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تبرز آراء نقدية تجاه المؤسسات الدينية أو الممارسات الاجتماعية المرتبطة بها، وإن كان التعبير العلني عن الإلحاد يظل محدودا، إضافة إلى ذلك، تلعب الهجرة والشتات المغربي دورا في نقل أنماط التفكير الأكثر علمانية إلى الداخل، حيث يتأثر الشباب بالتجارب الأوروبية والأمريكية التي يعيشها أقاربهم أو يتابعونها عن قرب.

ولا يمكن إغفال الأبعاد الاقتصادية والسياسية كذلك، فالتفاوت الاجتماعي والبطالة وتحديات التعليم والصحة تخلق شعورا بالإحباط لدى شرائح واسعة، ما يدفعها إلى إعادة النظر في الخطابات الدينية التقليدية التي لا تقدم حلولا ملموسة لمشاكلها اليومية، مع ملاحظة مفادها أن أن الأزمات الكبرى مثل جائحة كورونا تعيد للدين مكانته الرمزية كملاذ روحي وأخلاقي، وهو ما يفسر تراجع نسبة “غير متدين” في المسح العربي بعد 2020 مقارنة بذروتها في 2019، وهذا يوضح أن العلاقة بين المجتمع المغربي والدين ليست ثابتة بل تتأثر بالظروف المتغيرة.

ويمكن الإشارة أيضا إلى أن اللادينية في المغرب غالبا ما تعني الابتعاد عن الممارسة الدينية أو التحفظ تجاه المؤسسة، أكثر مما تعني قطيعة عقدية مع الإيمان، وبالتالي، فالأمر يتعلق بإعادة تعريف الهوية الدينية وليس برفضها المطلق، كما أن هناك فئة معتبرة تواصل الالتزام بالطقوس الدينية من باب العادة الاجتماعية أو الرمزية الثقافية دون أن يكون ذلك مؤشرا على تدين عميق.

من جهة أخرى، تكشف المقارنة مع بلدان شمال إفريقيا الأخرى عن خصوصية السياق المغربي، ففي تونس، حيث تصل نسبة “غير متدين” إلى 34.9% حسب نفس الدراسة، نجد إرثا سياسيا طويلا من العلمانية البورقيبية وانفتاحا اجتماعيا أكبر على النقاشات الدينية.

أما في مصر (24.7%) وليبيا (23.3%)، فإن التحولات مرتبطة بظروف سياسية واجتماعية مضطربة أعادت تشكيل علاقة الأفراد بالمؤسسة الدينية، في حين أن المغرب وبالرغم من استقراره السياسي والمؤسساتي، إلا أنه يشهد تحولات هادئة لكنها عميقة في تمثلات الدين، وهو ما يجعل نتائجه لافتة على الصعيد الإفريقي.

ويمكن القول إن المعطيات التي نشرتها The African Exponent لا ينبغي قراءتها كحقيقة مطلقة، بل كجزء من مشهد أوسع يتسم بالتعددية والتباين، ذبك ان المغرب يظل مجتمعا متدينا من الناحية العامة، لكنه يشهد في الوقت نفسه تحولات جيلية وثقافية تعيد تعريف العلاقة بالدين على المستوى الفردي.

وتعكس الأرقام المتباينة بين الدراسات المختلفة صعوبة قياس التدين واللادينية في مجتمعات محافظة، حيث تتداخل العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية في تشكيل الهوية، ومن ثم، فإن ما تكشفه هذه الدراسة هو بالأساس وجود فجوة متنامية بين التدين المعلن والتدين الفعلي، وبين الهوية الجماعية والاختيارات الفردية، وهي فجوة ستظل مرشحة للاتساع مع استمرار التغيرات الاجتماعية والجيلية.

ويفتح هذا النقاش المجال أمام تساؤلات أعمق حول مستقبل الهوية الدينية في المغرب في السنوات المقبلة، ومن الممكن أن تجعل من المغرب مختبرا فريدا في القارة الإفريقية لقراءة العلاقة المعقدة بين الدين والحداثة والهوية.