الشيخ الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز ، وملتقى الحضارات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب قد احتاج المغرب إلى مدرسة عقدية توفر له الاستقرار والوحدة الدينية، فاختار المذهب الأشعري كمرجعية عقدية رسمية، إلى جانب المذهب المالكي في الفقه، والتصوف السني في السلوك.
هذا الاختيار لم يكن اعتباطيًا، كما يظن البعض؛ بل جاء نتيجة تجربة تاريخية وفكرية عميقة، جعلت من الأشعرية مدرسةً متوازنة جمعت بين العقل والنقل، وحافظت على وحدة المجتمع الديني بعيدًا عن فتن التكفير والصراعات المذهبية، مع العلم أن الأشعرية ليست مجرد مدرسة عقدية ضمن مدارس الإسلام؛ بل هي اختيار حضاري وروحي تبناه المغرب منذ قرون ليكون أساس وحدته واستقراره الديني.
وقد جاء هذا الاختيار في سياق تاريخي خاص، حين كان المسلمون يواجهون تيارات فلسفية وعقدية متباينة، من المعتزلة الذين غلّبوا العقل حتى جعلوه حكمًا على النصوص، إلى الحنابلة الأثريين الذين أخذوا بظاهر النصوص دون تأويل، فظهرت الحاجة إلى مدرسة سنية وسطية توازن بين النقل والعقل وتجمع بين النصوص الشرعية ومقاصدها الكبرى.
هذه المدرسة هي الأشعرية، التي أسسها الإمام أبو الحسن الأشعري ( 260 ـ 4 32 هـ) بعدما خاض تجربة فكرية عميقة، بدأها في حضن المعتزلة وانتهى بها إلى تأسيس مذهب متفرد. فقد أعلن الأشعري توبته من الاعتزال وهو في الأربعين من عمره، وصعد منبر البصرة ليقول: “كنت أقول بخلق القرآن… وأنا تائب من ذلك معتقد للرد عليهم”.
لكنه لم يقف عند حدود الإنكار؛ بل بنى منهجًا جديدًا يقوم على الدفاع عن العقيدة الإسلامية بلغة العقل، في وقت كان العقل هو السلاح الأبرز في المناظرات مع الفلاسفة وأتباع الديانات الأخرى، وفي هذا السياق جاء اختيار المغرب للأشعرية لكونها لم تسقط في فخ التكفير، فإمامها نفسه قال وهو على فراش الموت: “اشهدوا علي أني لا أكفّر أحدًا من أهل القبلة”.
هذه الكلمة تلخص روح المذهب، الذي جعل من الخلافات العقدية بين المسلمين مجالاً للنقاش لا للتبديع والإقصاء، وهنا يتضح الفرق بينه وبين بعض المذاهب الأخرى، فالمعتزلة مثلاً كفّروا مخالفيهم بحجة العقل، وبعض الحنابلة كفّروا كل من أولّ النصوص في الصفات؛ بينما جاء الأشاعرة ليقولوا: النصوص ثابتة، والعقل معين على فهمها، فلا تناقض بينهما ولا تكفير بسببها.
لهذا وجد المغرب في العقيدة الأشعرية انسجامًا مع مرجعيته المالكية في الفقه، ومع التصوف السني في السلوك، فكانت الثلاثية التي صاغت شخصية المغربي المسلم وتدينه على مدى قرون.
إن الأشعرية حافظت على وحدة المغاربة، ووفرت لهم مذهبًا عقديًا يحميهم من صراعات مذهبية وعقدية عرفتها مناطق أخرى من العالم الإسلامي؛ لكن للأسف، مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي ظهر جيل جديد من شيوخ “التيكتوك” و “الفيسبوك” يهاجمون الأشعرية، ويكفرون أصحابها بحجة الاختلاف في أسماء الله وصفاته.
هؤلاء في الحقيقة يستمدون خطابهم من تيارات دينية متشددة هدفها التشكيك في المرجعية الدينية للمغرب وزرع البلبلة بين الناس، إنهم يتغاضون عن حقيقة تاريخية وهي أن الأشعرية تأسست أصلاً لحماية العقيدة من الانحراف، وأنها كانت حائط الصد أمام الفلسفات المادية والجدالات الكلامية والفرق الدينية المتطرفة التي كانت تهدد عقيدة المسلمين الأوائل، لهذا ترى السادة الأشاعرة وخصوصا فيما يتعلق بِقَضَايَا اجْتِهَادِيَّةٍ يُظْهِرُونَ تَسَامُحاً لاَ نَظِيرَ لَهُ، حَيْثُ لَمْ يُكَفِّرُوا مَنِ اجْتَهَدَ فِي تَقْرِيبِ بَعْضِ قَضَايَا الاعْتِقَادِ كَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى، أَوِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ وَمَسْأَلَةِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَبَقَاءِ الأَعْرَاضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ عِلمِ الْكَلاَمِ، فَالأُولَى عندهم عَدَمُ التَّكْفِيرِ؛ لِكَوْنِ أَصْحَابِهَا مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَالتَّأْوِيلُ إِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ النَّصِّ، وَهُوَ عَمَلٌ يُثَابُ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، سَوَاءٌ أَخْطَأَ أمْ أَصَابَ.. وَقدَ وَضَعَ الإمامُ الغَزَاليُّ قَاعِدةً جَليلةً فِي هَذَا الْمَوْضِع الْخَطيرِ الحساس فَقَالَ: “وَالذِي يَنبغِي أنْ يَميلَ المحصلُ إليه الاحترازُ مِنَ التكفير مَا وَجد إليه سبيلا، فإنَّ استباحةَ الدماء والأموال من المصلين للقبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، خَطَأٌ، وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ أَلْفِ كَافِرٍ فِي الْحَيَاةِ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَأ فِي سَفْكِ مَحْجَمَةٍ مِنْ دَمِ مُسْلِمٍ” . كما وضع قَاعِدَة أُخْرَى مُسْتَلْهَمَةً مِنْ رُوح الشَّرْع الْحَكِيم منها: “إنَّ الْخَطَأ فِي حُسْنِ الظَّنِ بِالْمُسْلِمِ أَسْلَمُ مِنَ الصَّوَابِ فِي الطَّعْنِ فِيهِ. فَلَوْ سَكَتَ إِنْسَانٌ مَثَلاً عَنْ لَعْنِ إبليسَ أوْ لَعْنِ أَبِي جَهْلٍ أَوْ أبِي لَهَبٍ أَوْ مَا شِئْتَ مِنَ الأشْرَارِ طُولَ عُمُرِهِ لَمْ يَضُرَّهُ السُّكُوتُ. وَلَوْ هَفَا هَفْوَةً بِالطَّعْنِ فِي مُسْلِمٍ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْهَلاَكِ”.
إن اختلاف الآراء المتعلقة بالشؤون الدينية، سواء تعلقت بآراء فقهية كاختلاف المذاهب الفقهية، أم عقدية كاختلاف الأشاعرة مع الماتوريدية وغيرهم من الفرق الكلامية، شيء عاد ولا يفسد للود قضية كما يقال، أما أن نحول ديننا الإسلامي من دين الرحمة والمحبة والتسامح والتعايش والسلام.. إلى آلية انقسام وبغض وكراهية وصراع وتكفير وقتل وتقاطبات أيديولوجية في المجتمع، وظلم وتجبر وطغيان واستعلاء على عباد الله تعالى، فاعلم أن جسد هذا الدين نفسه قد أصيب في مقتل؛ لأننا قد أخرجناه عن روحانيته وربانيته ومقاصده.
ختاما، إن الأشعرية بهذا المعنى ليست مجرد اجتهاد عابر، بل مشروع حضاري استمر أكثر من ألف عام، جمع بين النص والعقل، بين الشريعة ومقاصدها، وبين الوحدة والاختلاف المشروع، ومن يهاجمها اليوم إنما يهاجم ذاكرة أمة وخيار دولة ومذهبًا عاش مع المغاربة وحماهم من فتن التكفير والانقسام، وظل إلى اليوم سياجًا لوحدتهم الروحية والدينية .